لماذا يشتعل لبنان دائما؟
السبت، 11 نوفمبر 2017 09:54 م
لا يمكن قراءة تاريخ سوريا باعتبارها دولة مركزية قبل القرن العشرين، فلم يحدث ذلك قط، وكانت دائماً امارات وممالك وولايات، ولم يحدث يوماً ان امتد حكم سوري مركزي الى لبنان والأردن وفلسطين، تصور ان الشام يوماً كان دولة موحدة فكرة خاطئة تماماً من الناحية التاريخية، وحتى مصطلح الشام بدوره هو المسمى العربي لسوريا والذي لم يستخدم بشكل واسع بين ابناءها الا عقب الغزو العربي.
كما ان دول تلك المنطقة تفتقد لحدود تاريخية معترف بها، فقد تمددت وتقلصت مراراً، ولكن يمكن القول ان الحدود العثمانية لهذه المنطقة هي التي ينظر اليها اليوم باعتبارها الحدود التاريخية السابقة، تماماً كما يجرى في الخليج العربي والعراق.
هذه الحقائق ضرورية لفهم أوهام فكرة سوريا الكبرى كدولة مركزية، او ان سوريا يجب ان تسترد لبنان وفلسطين والأردن يوماً، اذ من الأولى ان تسعي دمشق الى استرداد الأقاليم السورية الشمالية التي تحتلها تركيا إضافة الى إقليم لواء الاسكندرون، او حتى هضبة الجولان السورية.. لذا يمكن القول ان فكرة سوريا الكبرى هي فكرة ثقافية عن شعوب وقوميات سورية، سوريا هي مفهوم ثقافي أكثر مما هي فكرة سياسية او جغرافية، وكانت ولاية دمشق هي المعنى فحسب من اسم سوريا او الشام ككيان سياسي بعيداً عن المفهوم الثقافي.
وفى هذا الإطار كان جبل لبنان في اغلب الأوقات صاحب حكم ذاتي او مستقل، وعلى عكس الرافضون لفكرة لبنان فأن الكثير من حكامه الأقوياء مددوا حكمه الى مساحات لبنان الحالية (لبنان ما بعد الحرب العالمية الاولي) أكثر من مرة، ولكن ايضاً دون ان تظل تلك هي الحدود الثابتة.
على كل حال ان مشكلة لبنان القرن العشرين ليست اسطورة مملكة الشام ودولة سوريا الكبرى، او ان زعامات طرابلس ظلوا حتى اربعينات القرن العشرين يعتبرون أنفسهم جزءاً من الجمهورية السورية، او تاريخ طويل من الحدود غير الثابتة، ولكنها في مجتمع اقطاعي متدثر بالعباءات السياسية والطائفية على عكس ما يردده الهواة الذين يستسهلون قراءة المشهد اللبناني في إطار طائفي دون ان يمتلكوا القدرة التحليلية على التفرقة بين موارنة حزب الكتائب وحزب القوات اللبنانية على سبيل المثال.
فالطائفية في لبنان هي صناعة اقطاعية خالصة وليس العكس، فهي أسر اقطاعية برجوازية وجدت في ترأس الطائفة بل وفى صناعة الطائفة في بعض الأحيان سبيلاً للحفاظ وحماية المصالح البرجوازية الاقطاعية، لذا تسيطر على زعامة كل طائفة عدد محدود من الأسر، في أكبر عملية توريث سياسي عبر التاريخ الحديث، فالرئاسات الثلاث والبرلمان وقيادة الجيش والعديد من مناصب الصف الأول والثاني كلها خاضعة لعملية توريث سياسي لا مثيل لها في العالم.
وبالتالي فأن القراءات غير الدقيقة للهواة حول الازمات الطائفية في لبنان هي في واقع الامر صراعات رجال الاعمال بشكل او باخر، ونعرف في الحقل السياسي ان لبنان يضم ثروات واموال أكبر بكثير مما يمكن ان تضمه دولة بحدود وموارد لبنان، فهو ارث اقطاعي عتيد، عكس كافة الطبقات الاقطاعية التي توارت عن الأنظار وتدير العمل السياسي عبر ساسة فأن تزاوج المال بالسلطة بالطائفة في لبنان صناعة لبنانية متفردة.
هذا لا ينفي انه ضمن عمليات التوريث هنالك من يحسبها بشكل طائفي فعلاً، علماً بأن القراءة السطحية للبنان باعتباره سنة وشيعة وموارنة هي قراءة لن تفيد لفهم لبنان الذي يضم 13 طائفة بعضها ليس لديه حصة في الرئاسات الثلاث ولكن لديه ثقل على الساحة هام للغاية مثل الدروز على سبيل المثال.
ولكن لماذا ينفجر لبنان دائما؟
في البداية كان لبنان دائماً في قلب الصراع الدولي على المنطقة، سواء أبان الحملات الصليبية، او الحملة العسكرية الروسية على شرق المتوسط (1772 – 1774)، وعقب بدء الانتداب/الاحتلال الفرنسي لمنطقة سوريا الكبرى، قامت فرنسا بوضع حدود لبنان الحالي بالتنسيق مع بعض القيادات المسيحية المارونية على ضوء تمثيل ماروني رسمي في مؤتمرات الصلح التي أعقبت الحرب العالمية الاولي، وحتى بداية الحرب العالمية الثانية لم تحدث محاولات غربية مثرة لمزاحمة النفوذ الفرنسي في لبنان.
ومع الاحتلال الألماني لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، أصبح لبنان تحت حكم برلين، وشنت بريطانيا وفرنسا حملة عسكرية مضادة لاستعادة سوريا ولبنان، وتم ذلك بالفعل ولكن الثمن كان تواجد عسكري بريطاني بجانب فرنسا في سوريا ولبنان، ولم يقبل كلاهما الخروج من لبنان الا مع خروج الآخر، وشجعت أمريكا تلك المعادلة.
وبعد جولة من الصراع الدولي على ارض لبنان بدأ الصراع بالوكالة كما هو الحال في الحرب الباردة، بين الاشتراكيين والليبراليين وأنصار القومية العربية وأنصار التوجه للكتلة الغربية، وعلى أثره أرسلت أمريكا المارينز الى لبنان عام 1958 لفترة وجيزة وجرت اشتباكات في هذا العام كانت بروفة للحرب الاهلية لاحقاً.
ورغم الجدل التاريخي حول هذا الملف، الا انه يمكن القول ان انصار التوجه الى الكتلة الشرقية السوفيتية والقومية العربية وان لبنان امتداد جغرافي لسوريا وتاريخي لمصر وان القضية الفلسطينية هي دوحة النضال الوطني هم من ادخلوا بل استدرجوا لبنان الى صراعات إقليمية لا طائل منها، سواء استقبال هذا الكم من اللاجئين الفلسطينيين وترسيخ مفهوم ان المخيم هو دولة داخل دولة، او تشجيع الدول العربية على اعتماد لبنان منطلقاً لعمليات المقاومة الفلسطينية، وكانت النتيجة ان الدول العربية الكبرى التي هزمت في ست أيام دون قتال يذكر قد قدمت لبنان الى طبق من ذهب الى إسرائيل لتمتلك الحجج الكافية للتدخل العسكري.
مثلما حاول جمال عبد الناصر تحرير فلسطين عبر التدخل في اليمن، وحاول صدام حسين تحرير فلسطين عبر التدخل في الكويت، وحاول معمر القذافي تحرير فلسطين في التدخل في تشاد، فأن بقية جوقة زعامات القومية العربية حافظ الأسد وياسر عرفات تسابقوا في تخريب لبنان تحت مسميات تحرير فلسطين، ومهما كان للبنان من عوامل داخلية حتى الطائفي منها، فأن التواجد الفلسطيني والتدخل السوري لعب دور رئيسي في انفجار الحرب الاهلية اللبنانية (1975 – 1990)، حيث كان للرئيس السوري حافظ الأسد تصور ان سوريا الكبرى يجب ان تخضع كاملة لسيطرة دمشق.
وعلى أثره بدأ التدخل السياسي المباشر في لبنان، بعد ان مارس اسلافه في الرئاسة السورية هذا التدخل ولكن بشكل ناعم، وحاول اقصاء ياسر عرفات عن الزعامة الفلسطينية وحاول أكثر من مرة انشاء كيان بديل عن حركة فتح على امل ان يزيح هذا الكيان الموالي لدمشق حركة عرفات وزمرته عن سدة القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية.
وقررت جامعة الدول العربية ارسال قوات عربية الى لبنان لوقت القتال، ولكن سوريا الأسد حولت قوات حفظ السلام الى قوات حفظ المصالح السورية، وبدأت في قصف فرق بعينها والتحالف مع فرق بعينها داخل لبنان، ثم بدأ الغزو الإسرائيلي، ويشهد تاريخ لبنان ان بعض المناطق شهدت في نفس الوقت قصفاً سوريا ً واسرائيلياً، فلم يكن المواطن يفرق بين العدوان السوري او الإسرائيلي بل بدا الامر كأن ما يجرى في بعض مراحله اشبه بالعمل العسكري المشترك بين حافظ الأسد ومناحم بيجن، والجيشين السوري والإسرائيلي.
وللمفارقة فأن الرئيس السوري حسني الزعيم حينما استقبل وزير الخارجية الإسرائيلي موشي شيرتوك سراً عام 1948 كان قد اقترح انشاء جيش سوري إسرائيلي مشترك في إطار رؤيته لدمج إسرائيل مع العرب في مخطط امريكي لمكافحة الدول الاشتراكية بالشرق الأوسط.
هكذا كانت الحرب الاهلية اللبنانية هي حرب عالمية مصغرة بالوكالة، تماماً كما جرى في سوريا الربيع العربي، وتقاسم الجيشين السوري والإسرائيلي مناطق النفوذ تماماً كما يفعل الامريكان والروس والأتراك والإيرانيين في سوريا اليوم، ووسط الخراب كانت السعودية تؤسس لها موطئ قدم في محاولة للجم التمدد السوري الإيراني في لبنان، وكذلك الامر كانت إيران تستثمر الديموجرافية الشيعية جنوباً لتجعل تلك الديموجرافيا حواضن شعبية وطائفية لمشروعها الإقليمي.
في إيران الملكية اوفد الشاه الامام موسي الصدر وأسس حركة أمل، وفى إيران الاسلامية وزمن الخميني أسس الأخير حزب الله من قلب حركة امل، ولا جديد حيث حاولت إيران الصفوية مراراً استغلال الديموجرافيا الشيعية في الخليج والعراق ولبنان وسوريا لإيجاد موطئ قدم، وكان ساخراً ان سوريا البعثية تحالفت مع ايران الخمينية في زمن الايدولوجيات السياسية، وهو تحالف لم ينتهي حتى اليوم، اذ ان كلاهما مستفيد من الاخر بل وبنى تحالفاته السياسية بناء على وجود واستمرار الآخر.
تبارى الجيش السوري والجيش اللبناني بقيادة ميشيل عون وحركة أمل المدعومة من إيران في الثمانينات في قصف المخيمات الفلسطينية، وذلك نتيجة ان ياسر عرفات وضع المخيمات في المعادلة السياسية باعتبارها جمهوريته الفلسطينية داخل لبنان، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي وانتصار الولايات المتحدة الامريكية، جرت تسوية لأنهاء الحرب اللبنانية، حيث اعترف المجتمع الدولي بالاحتلال السوري للبنان، تحت مسمي الوصاية السورية، وبقاء الاحتلال الإسرائيلي للجنوب، وعقد اتفاقية الطائف في السعودية.
في الطائف ترسخت الطائفية، وما كان عرف سياسي أصبح اتفاق سياسي ملزم بالمحاصصة الطائفية في لبنان، انتهت الحرب عام 1990، وقد تعاون جميع الأطراف بلا استثناء مع جميع الأطراف بلا استثناء، محلياً واقليمياً، إسرائيل وامريكا قبل سوريا وإيران، وارتكب جميع الأطراف جرائم حرب واغتيالات بلا استثناء، واتفق الجميع على غلق هذا الملف وان يتحول جنرالات الحروب الى زعامات سياسية مرة اخري.
داخل الاحتلال السوري كان هنالك احتلال إيراني مبطن، ويمكن القول ان طهران كانت بارعة في احتواء الأسد الاب وتركه يدير التعاون الثنائي، ولاحقاً حينما رحل فأن العكس هو الذي تم، بمعني ان الأسد الابن أصبح مجرد كارت إيراني في سوريا قبل لبنان، وفى نهاية المطاف فأن التواجد السوري في لبنان بداية من عام 2000 قد بدأ يتحول رويداً الى تواجد إيراني بأذرعه سورية.
عام 2000 اتخذ ايهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي قراراً بالانسحاب من جنوب لبنان وتفكيك دولة لبنان الحر وهي جمهورية لبنانية نشأت تحت راية الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، وكان الغرض من الانسحاب هو تخلص لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وبالتالي فلا ذريعة لبقاء سوريا وإيران ممثلة في حزب الله وحركة أمل.
مع اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير 2005 اندلعت ثورة الاستقلال الثاني، وأعلن الرئيس الأسد الابن انسحاب القوات السورية من لبنان منهياً احتلال دام ثلاثة عقود (1975 – 2005)، وهكذا تبقا ميلشيات إيران في المعادلة حتى اليوم.
اذن البند الأول هو التدخل الأجنبي وتحويل لبنان الى ساحة لتفريغ وحسم صراعات وحسابات إقليمية وفى بعض الحالات صراعات دولية، اما البند الثاني فهو زعامات الداخل أنفسهم، الذين جلبوا وطلبوا الدعم الأجنبي تارة تلو الأخرى، وتجد ان رجالات سوريا في لبنان رغم انسحابها العسكري استطاعوا ترميم نفوذ دمشق في لبنان سياسياً واسقاط وزارة الحريري الأولى عام 2011، وتشكيل ائتلاف 8 آذار بل واستقطاب ميشيل عون من قلب تحالف 14 آذار المناهض للنفوذ السوري والإيراني في لبنان.
عكس الكثير من المجتمعات فأن الدعم الخارجي لمجموعة سياسية بعينها ليس من المحرمات في السياسية اللبنانية، بل ان اللعبة السياسية برمتها اشبه بتكتلات ممثلة لدول الجوار او دول كبري.
ولا يجب وسط كل هذا ان نخلط الأوراق، وان يتساوى بين من طلب دعم سوريا وإيران لقلب المعادلة اللبنانية بمن اضطر امام هذا التحرك لطلب دعم الخليج العربي، ولا يمكن ان نقارن الاحتلال والتدخل العسكري السوري والإيراني واتخاذ لبنان قاعدة لانطلاق عمليات إرهابية ضد الخليج ومصر كما جرى في 28 يناير 2011 بمن اضطر في المقابل باللجوء الى المظلة الخليجية او المصرية، لا يمكن المقارنة بين الفريقين.
لدى سوريا وايران مشروع حول لبنان مختلف عن تاريخ وواقع لبنان، بينما الفريق الاخر ممثلاً في الخليج ومصر لا يريدون الا الحفاظ على لبنان المتعارف عليه في كتب التاريخ، ولدى رجالات 8 آذار رؤية لتحويل القرار اللبناني الى مجرد كروت بيد دمشق وطهران في اطار لعبة الأمم مع الغرب ليس لأى قضية عادلة الا اعلان قيام شرق أوسط إسلامي على نهج الامام الخميني كما قالها مراراً بأنه يحلم بأن يرى رايات الثورة الإسلامية الإيرانية ترتفع في دمشق وبغداد والرياض والقاهرة، بينما لدى رجالات 14 آذار رؤية لان يتحرر لبنان من الاملاءات وان تكون علاقاته مع محيطه المشرقي في اطار تحالفات سياسية دولية لا محافظة سورية او إيرانية.
تلك هي أسباب انفجار لبنان دائماً منذ تأسيسه في العصر الحديث عام 1920، شبكات مصالح داخلية ارتدت العباءات الطائفية، بينما الطائفية لا تمثل أكثر من 10 % من المعادلة، وصراعات إقليمية ودولية تفرض نفسها على لبنان، وزعامات الداخل تجد في الصراعات الإقليمية والدولية مساحات لحسم التناحر الداخلي.
هذه التركيبة جعلت الكثير من شباب لبنان يقرر الهجرة، ورغم عدم وجود إحصاءات رسمية في هذا الصدد ولكن اغلب شوام المهجر قادمون من لبنان مقارنة دول أقاليم سوريا الكبرى، سواء الذين رحلوا الى مصر او أمريكا اللاتينية، ذات مرة الرئيس البرازيلي ايناسيو لولا دى سيلفا سأل رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني عن تعداد لبنان فقال الحريري ثلاثة ملايين لبناني، فاذا بالرئيس البرازيلي يقول ان لديه في البرازيل 9 مليون من أصول لبنانية!
ويبقا السؤال.. متى يتحرر لبنان من الوصاية السورية – الإيرانية، والى متى كلما تم تضييق الخناق على دمشق وطهران يكون الجواب اغتيال او تفجير جديد في لبنان، والى متى سوف ينفذ حلفاء سوريا وايران في لبنان ما عجزت عنه إسرائيل من تخريب لهذا البلد الجميل؟