من أوراق بدر الدين أبو غازي.. هكذا كان يوم رحيل محمود مختار
الثلاثاء، 12 سبتمبر 2017 09:00 م
نشر الدكتور عماد أبو غازي، وزير الثقافة الأسبق، مجموعة أوراق قديمة لوالده بدر الدين أبو غازي، تكشف عن تفاصيل اليوم الذي رحل فيه خاله الفنان محمود مختار مثال مصر الأول، وكيف استقبلت العائلة والأصدقاء حدث وفاته.
وقال أبو غازي، أمس، على صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيس بوك: النهار ده 11 سبتمبر 2017 مرت 34 سنة على رحيل أبويا بدر الدين أبو غازي، وأنا بأرتب في أوراقه لقيت مفكرة صغيرة، مفكرة الكشاف لسنة 1934، كان سن أبويا وقتها 14 سنة، وكان تلميذ في مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية في شارع نوبار في السيدة زينب، وساكن في المنيل في نفس البيت اللي فضلت فيه جدتي وعماتي لغاية رحيل أخر واحدة فيهم سنة 2005، وفي البيت ده لقيت المفكرة.
وتابع أبو غازي قائلا "سنة 1934 كانت سنة فاصلة في حياة أبويا، فاصلة بكل معنى الكلمة، في السنة دي وتحديدا يوم 27 مارس رحل محمود مختار خال أبويا، واللي تولى أمر العيلة من ساعة وفاة جدي محمود أبو غازي سنة 1926، بوفاة مختار أصبحت حياة العيلة صعبة، جدتي وأختها اللي هما أخوات مختار وأمهم ومعاهم أربع أطفال أكبرهم أبويا اللي كان عمره 14 سنة، أسرة فقدت عائلها فجأة في زمن ما كانش يعرف نظام ثابت للضمان الاجتماعي، وفجأة أصبح الصبي بدر الدين أبو غازي مسؤول معنويا عن العيلة دي، كمان بقى عنده شعور بالمسؤولية ناحية تراث خاله، وبدأ يجمع كل اللي بيتكتب عنه في الجرايد والمجلات، في الأول سلوى لأمه وخالته وجدته، وبعدين لتحقيق فكرة بدأت تتبلور في ذهنه في السن المبكر ده، إنه يكتب كتاب عن خاله محمود مختار، ومن هنا بدأت رحلة كتابه الأول اللي صدر بعدها بخمستاشر سنة: مختار حياته وفنه، ومن هنا برضه كان ميلاد مشروع الناقد الفني بدر الدين أبو غازي.
أرجع للمفكرة تاني اللي عمرها 80 سنة. لما قلبت فيها لقيت بدر كاتب في يوم الاثنين 26 مارس: "أول يوم العيد. يوم قضيته سعيدًا من أوله إلى آخره."
وفي يوم الثلاثاء 27 مارس كتب:
"آه آه يوم أوله سرور وآخره حزن وشؤم أبدي إذ تلقينا حوالي الساعة الرابعة والنصف من المستشفى الفرنساوي أن المثال مختار عاوزنا فذهبنا وإذا بروحه البريئة آخذه في فراق جسده الطاهر. واستسلم الروح في الساعة 7 إلا ربع".
وفي يوم الأربعاء 28 مارس كتب:
"تشييع جنازة النابغة مختار ـ ذهبنا صباحا إلى المستشفى ـ خرجنا الساعة 4 وربع تقريبا مع النعش أنا وخالي وبابا عوض بك [وصلنا المحطة الساعة 4,5] [سارت الجنازة الساعة 4,45].
وفي الصفحات الأولى من المفكرة كتب نص مفصل أكتر في أربع صفحات ونص، قال فيه:
"آه يا لها من ذكرة تعيسة. يا له من شقاء أبدي. يا له من حزن دائم بعد ذلك. كنت جالسا أنا ثاني يوم العيد حوالي الساعة الرابعة والنصف. دق تليفون منزل عوض بك وكنت هناك. إذ كنت ذاهبا إلى السينما مع عبد القادر، فأجابته جليلة هانم، وإذ به عيد الخادم، خادم المثال مختار يسأل عن عوض بك، وكان في المحلة، قائلا أن المثال يريده فسألته هل نذهب نحن عوضا عنه، فتكلم ثانيا وقال دعوهم يحضروا، فذهبنا، وإذا بروحه البريئة الطاهرة آخذه في الصعود ـ فذهبنا وإذا بروح الفن آخذه في الصعود ـ ثم أسلم الروح في الساعة السابعة إلا ربع تقريبا عندما ضربت المدافع إيذانا بحلول ميعاد صلاة المغرب، وذلك في يوم الثلاثاء 27 مارس سنة 1934 الموافق 12 ذو الحجة سنة 1353 الموافق ثاني يوم العيد.
مصر بنت النيل تبكيك وباريس أم النور ترثيك
ذهبنا صباح 28 مارس إلى المستشفى الفرنسي (أنا ـ طنط ـ أنه ـ ستي ـ طنط ج) وركبنا ثورنيكروفت إلى القصر العيني ـ ركبنا عربة الأسطى محمد إلى عمارة مكاوي ـ ناديت أبلة روحية وركبنا معا في العربة قاصدين المستشفى ـ اشترينا الجهاد والأهرام ـ وصلنا المستشفى فلم نجد أحدا، ودخلنا الحجرة وقرأنا الفاتحة وبكينا ـ حضر عيد الخادم الأمين للمثال العظيم ـ حضر خالي وأبلة سرية بعد عمل التلغرافات ـ إلتف الجميع حول جسد مختار العظيم باكين سائلين الله أن يرحمه ـ حضر حوالي الساعة العاشرة صباحا الأساتذة محمد فؤاد حمدي بك وشقيقه مصطفى حمدي بك ومحمود حمدي بك ـ محمود سعيد بك ـ المسيو جان نيقولا بيدس المهندس المعماري وقد أخذ الأخيران عناوين بعض أصدقاء المثال لإحضارهم.
وفكروا في فكره وهي أخذ masque لوجه المثال مختار، وانصرف الجميع، بعد نصف ساعة حضر المسيو شارل دونيه مدير المستشفى الفرنسي ومعه رئيسة الراهبات فدخل في الحجرة ورفع الملاءة المغطى بها وجه المثال العظيم وأحدق النظر في وجه صديقه العظيم ثم انصرف والدموع تحوم في عينيه ـ حضر عوض بك من المحطة ـ حضر الشيخ الفاضل الأستاذ مصطفى عبد الرازق ومعه شاب وجيه، فسأل عن ميعاد قيام الجنازة وانصرف وهو بوده الدخول لوداع مختار وداعا أبديا لكنه لم يقل ـ حضر أحد أصدقاء مختار الأجانب سائلا عن ميعاد قيام الجنازة وانصرف.
حضر حوالي الساعة الواحدة الأساتذة أنطون حجار ـ محمود سعيد بك ـ المسيو جان نيقولا بيدس لأخذ masque وقد بكوا بكاء مرا حينما رأوا مختار راقدا ممد الأيدي لا يتحرك ولا ينبض، فأخذوا يبكون، وابتدأ الأستاذ أنطون في عمله وقد حضر الدكتورين إبراهيم العيسوي ومحمد حلمي ودخلوا في الحجرة الراقد فيها مختار ومعهم عوض بك وخالي ماشتريا جبسا، ونفدت الزهرة، فأخذ خالي زهرة من المستشفى، ولم يقوى الأستاذ سعيد على رؤية مختار وهم يضعون الجبس على وجهه وهو راقد ممد فخرج وجلس في حديقة المستشفى، وقرب انتهاء العمل خرج المسيو جان وجلس مع سعيد بك ـ ولما انتهى الأستاذ حجار من عمله قبل مختار في وجهه وقال: "مع السلامة يا سي مختار" وقد عزى الحاضرين وأخذ معه نموذج اليد والوجه الذي عملهما وانصرف الجميع ـ وأقيمت عملية الغسل ثم كفن، ولم يقو عوض بك على رؤية ذلك المنظر الذي حضرته ستي وخالي فخرج وقد أجهش بالبكاء ـ ثم وضع المثال في تلك الأثواب كالعادة وغطي عليه.
وفي تلك اللحظة كان وداعا مؤثرا من أسرته التي لن تراه بعد ذلك الحين إلا في جنة الخلد والرضوان إن شاء الله، ثم وضع في النعش وغطي عليه، وفي تلك اللحظة احتجب مختار عن العالم واحتجب العالم عن مختار ـ ثم انصرفت الوالدة والسيدات جميعا ليروا الجنازة وركبنا..انتهى