التركة الثقيلة و"حروب الظل في إقليم مضطرب".. 1
الأحد، 18 أغسطس 2024 05:18 م
بعيدًا عن صخب معارك تقليدية، تخوض البلاد حربًا ضروسًا في عتمة الظل، تدور رحاها في محيط إقليمي مهترئ؛ وثب الخصوم على ثكناته القتالية واللوجستية بفعل غياب دولة ما قبل «الجمهورية الجديدة»؛ ليرث الرئيس السيسي كرهًا لا طوعًا تركة ثقيلة، تفرض تحديات إعادة رصف صفوف العمق الاستراتيجي، وانفتاح على ساحاتٍ لم تطأها قدم مصرية منذ دولة جمال عبد الناصر.
في القارة السوداء، وقرنها الأفريقي، وآسيا، وأمريكا اللاتينية، وأوروبا، وغيرها، تموضع الخصوم طيلة عقود الغياب، وأرسوا بنى تحتية تضمن نفوذًا وهيمنة على حساب العمق الاستراتيجي المصري، فاستدعى الواقع المأزوم نزع القفازات، ووداع انكفاء وتقوقع، ودفاع عن الحدود خارج الحدود.
ويشي تسارع التقارب المصري الصومالي بوعي لأبعاد الأمن القومي الإقليمي، وحتمية صون مقدراته، وحظر اختراق سيادته، وتوحيد الصفوف أمام مغامرات بائسة، حاولت ولا زالت تمزيق الدول، وشد أطرافها، وامتصاص مواردها في ظل تهديد وجودي غير مسبوق.
لم يغب الدور المصري في الصومال حتى وفاة عبد الناصر، فاستراتيجية القاهرة حينها، عمدت إلى دعم الدول الأفريقية حديثة الاستقلال (الصومال نال استقلاله عام 1960)، ودأبت على مساعدتها في تأسيس وإدارة مؤسسات دولة جديدة، للحيلولة دون سقوطها مجددًا في دوَّامة استعمار غير مباشر.
ولعل زيارة رئيس الصومال حسن شيخ محمود الأخيرة للقاهرة، ولقاءه والوفد المرافق الرئيس عبد الفتاح السيسي، ضاهت في الغرض والمضمون والتحديات، زيارة رئيس وزراء الصومال عبد الرشيد علي شماركي للقاهرة عام 1961، ولقاءه الرئيس عبد الناصر.
حينها كان شماركي ووفده قد عرج إلى مصر بعد جولة مكوكية في أوروبا، رفضت فيها دول القارة العجوز إمداد الصومال بالسلاح لمواجهة «المخاطر الحدودية المتصاعدة مع إثيوبيا»؛ فقرر ناصر على الفور الاستجابة لطلب الصومال، مدشنًا حقبة جديدة للتعاون مع الصومال. حينها وصف رئيس الصومال محمد سياد بري لقاء وفد بلاده في القاهرة بقوله: «كانت مقابلة جمال عبد الناصر نقطة تحول في تاريخنا، بدّدت كل اليأس».
لا يختلف اليوم عن الأمس، إذ ما برحت مكانها تهديدات إثيوبيا، ولم تتنازل «قوى الشر» التي تديرها حتى الآن عن محاولات تمزيق وحدة وسيادة الصومال، فما يُعرف بإقليم «صوماليلاند»، الذي فصلته بريطانيا عن الوطن الأم باستعماره حتى 1960، أطل برأسه من جديد، ليعبث مهندسوه بأريحية في مجالات الأمن القومي الإقليمي؛ لذا دشنت «الجمهورية الجديدة» اتفاق دفاع مشترك مع الصومال، وطفقت القاهرة ومقديشيو تعميق التعاون الثنائي عبر إطلاق خط طيران مباشر فيما بينهما، وفتح سفارة مصرية في العاصمة الصومالية، فضلًا عن توقيع بروتوكول تعاون عسكري بين البلدين.
في الماضي، والحاضر، تدرك القاهرة ومعها مقديشيو والعواصم الإقليمية الوطنية، ضعف أدوات الصراع، وانحسار دورها الوظيفي في أداءات لا تتجاوز كاميرات وسائل الإعلام؛ لكن المظلة الزائفة التي يظن الأقزام حصانتها، وابتعادها عن القدرة المصرية، تحاول جاهدة ومنذ عقود، التسلل عبر خونة الداخل إلى نقاط تماس محددات الأمن القومي الإقليمي، فتعمل على إزكاء الصراعات المسلحة، وهدم الدولة الوطنية، ونشر فوضى تفجير الأوضاع من الداخل.
وإذا كان اسم إثيوبيا مدرجًا في سياقات القلاقل التي تهدد الأمن القومي الإقليمي، وبالتالي أمن مصر القومي، فلا مناص من استعراض أبعاد دورها ودواعيه، وقياس مدى علاقته بإسرائيل في الماضي والحاضر؛ وربما تخرج هذه العلاقة من إطار الشك إلى اليقين عند استعراض اعترافات ضابط الموساد المتقاعد (أمريكي الأصل) يوسي ألبير.
في تقرير مطول نشرته مجلة «يوم ليوم» المحسوبة على تيار اليمين المتطرف، يوضح المسؤول الأمني الإسرائيلي السابق أنه حاول شخصيًا فتح قنوات تعاون سريَّة مع الصومال خلال ثمانينيات القرن الماضي، لكن محاولاته لم ترق إلى آمال مؤسسته، التي تطلعت إلى ربط إسرائيل بمثلث جنوبي، تتموضع إثيوبيا في مقدمته؛ أما الهدف المحوري من تكوين المثلث، وفقًا لنص كلام ألبير، فكان كالتالي:
«القدرة على فرض حضور إسرائيلي غير مباشر (بالأحرى من خلال إثيوبيا) جنوب مصر، ولفت انتباه المصريين على الأقل إلى هذا الحضور، فضلًا عن تلويح بين فينة وأخرى بتهديد منابع النيل بالقوة، وتعزيز الدعم الإسرائيلي لإثيوبيا المسيحية، وإزكاء صراعها المسلح أمام معسكر الدول العربية والإسلامية. بالنسبة لإسرائيل، تعززت الدواعي الملحَّة لضمان ممر ملاحي آمن على مضيق باب المندب، ومنه إلى البحر الأحمر، وصولًا إلى ميناء إيلات».
ومن خلال رأس الحربة الإثيوبية، تعزَّز الحضور الإسرائيلي في القرن الإفريقي، وأصبح «سد النهضة» رافدًا من روافد تهديد الدولة المصرية، واستبقت إسرائيل تدشينه على مدار عقوت خلت، بدعم إثيوبيا منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن. بدأ الدعم بمنح إسرائيلية في مجالات الزراعة والصحة، وتأهيل العمالة الإثيوبية في قطاعات الخدمات العامة والتنمية، بالإضافة إلى تفعيل برامج البعثات التعليمية، وتدفق أعضاء هيئات التدريس الإسرائيلية إلى إثيوبيا.
في 1966، طار وفد إسرائيلي إلى أديس أبابا، تألف من 100 كادر عسكري، وكان الوفد هو ثاني أكبر وفد عسكري يزور إثيوبيا بعد وفد أمريكي سبقه بفترة ليست بالكبيرة؛ وكان طبيعيًا في ظل تعويل إسرائيل على الدور الإثيوبي حصول أديس أبابا على أكبر قدر من المساعدات العسكرية مقارنة بحجم المساعدات ذاتها، التي خصصتها تل أبيب في حينه لكافة الدول الإفريقية.
ولا تقل اعترافات ضابط الموساد السابق يوسي ألبير عن نظيرتها المنسوبة لضابط المظليين الإسرائيلي المتقاعد تسوري ساجي، حين أكد في تصريحات صحفية حرص إسرائيل على تعزيز العلاقات العسكرية في حينه مع إثيوبيا، وقال إنه كان مكلفًا خلال الفترة ذاتها بتدريب الجيش الإثيوبي، بعد علاقات تشكلت مع قيصرها هيلا سيلاسي. ويضيف: «كانت التدريبات تتمحور في مجملها حول القفز بالمظلات، وأخرى لقوات الكوماندو. أوفد إلى هناك ضباط إسرائيليين، وجرى تشكيل شخصية (لإسرائيل) هناك».
قطعًا لا يتعارض حضور إسرائيل في إثيوبيا والقرن الإفريقي بشكل عام مع ضغوطات أكثر خطورة على حدود سيناء الشرقية، ومعهما لا يمكن استثناء التهاب البحر الأحمر، ومضيق باب المندب، فالهدف هو المصريين.
في المقابل، تؤشر التحركات المصرية مع الصومال وغيرها من دول القارة السوداء إلى أن القاهرة لن تغيب مجددًا عن حضور فاعل في كافة الاتجاهات، وأنها لا ولن تتوانى دفاعًا عن أرضها، وسيادتها، وأمنها القومي، وعمقها الاستراتيجي، مهما بلغت التكلفة، لاسيما وأن تجهيز الخصوم مسرح عمليات الواقع الحالي، استغرق سنوات وموارد هائلة، هدفت جميعها إلى إحماء حروب الظل، وصاغها أول رئيس وزراء إسرائيلي دافيد بن جوريون فيما يُعرف بـ«نظرية الطوق»، وهو ما نكشف تفاصيله في حديث قادم.