الافتاء توضح حكم تأخير الفطر وترك السحور لكسر الشهوة الجنسية
الأربعاء، 06 مارس 2024 03:19 م
أجابت دار الافتاء على سائل يقول ،ما حكم تأخير الفطر وترك السحور لكسر الشهوة؟ فأنا شابٌّ لم يمنَّ الله عليَّ بالزواج بعدُ، والصيام لا يكسر شهوتي؛ فهل يجوز لي تأخير الفطر في رمضان والصيام من غير سحور لكسر الشهوة؟
الجواب
يجوز للمُكلَّف تأخير الفطر، وكذلك الصوم من غير سحور؛ إعانةً له على كسر الشهوة، ما لم يترتب على ذلك إلحاق الضرر ببدنه، كما أنَّ سنة تعجيل الفطر والسحور تحصل ولو بتناول قليل من الماء.
الحكمة من مشروعية الصيام
شَرَع الله تعالى الصوم رحمةً بعباده وإحسانًا إليهم؛ إذ جعل فيه جملةً من المنافع الدينية والدنيوية؛ ومن ذلك أن جعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وِجاءً لمن اشتدت عليه شهوة النكاح ولا قدرة له عليه.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوَّج، فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصَّوْم، فإنَّه له وِجَاءٌ» أخرجه الشيخان.
قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (9/ 173، ط. دار إحياء التراث العربي): [أمَّا الوِجاء فبكسر الواو وبالمد، وهو رَضُّ الخصيتين، والمراد هنا: أنَّ الصوم يقطع الشهوة ويقطع شرَّ المَنِيِّ كما يفعله الوِجاء] اهـ.
استحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور
قد أجمعت الأمة على أنَّ تعجيل الفطر مندوبٌ إليه وأنَّه من سنن النبي المختار؛ فقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، قال: «لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر».
قال الإمام ابن رشد المالكي في "بداية المجتهد" (2/ 69، ط. دار الحديث): [وأجمعوا على أنَّ من سنن الصوم تأخير السحور وتعجيل الفطر] اهـ.
وقال الإمام المَرْداوي الحنبلي في "الإنصاف" (3/ 329، ط. دار إحياء التراث العربي): [(ويُستَحَبُّ تعجيل الإفطار) إجماعًا، يعني: إذا تحقَّق غروب الشمس] اهـ.
كما أجمعوا على أنَّ السحور مندوبٌ إليه؛ لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلَّم: «تسَحَّروا فإنَّ في السَّحور بركة» أخرجه الشيخان.
والبركة في السحور تحصل بجهات متعددة، وهي: اتباع السنة، والتَّقَوِّي به على العبادة، والزيادة في النشاط، ومدافعة سوء الخُلُق الذي يثيره الجوع، والتسبب بالصدقة على من يسأل إذ ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبب للذكر والدعاء وقت مَظِنَّة الإجابة، وتدارك نيَّة الصوم لمن أغفلها قبل أن ينام. كما في "فتح الباري" للإمام ابن حجر العسقلاني (4/ 140، ط. دار المعرفة).
قال الإمام ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 49، ط. دار المسلم): [أجمعوا على أنَّ السحور مندوبٌ إليه] اهـ.
حكم تأخير الفطر وترك السحور لكسر الشهوة
المكلَّف إن أخَّر الفطر -أو ترك السحور- حِميَةً لكسر الشهوة لم يكن فعله مكروهًا؛ إذ إنَّه يُكرَه إن كان على وجه التَّدَيُّن والاستنان أو التشديد، فأمَّا لغير ذلك فلا؛ كما قرَّره فقهاء المالكية والشافعية.
قال العلامة ابن ناجي التنوخي المالكي في "شرحه على متن الرسالة" (1/ 275، ط. دار الكتب العلمية): [قال الباجي: وتعجيل الفطر هو ألَّا يُؤخَّر بعد غروب الشمس على وجه التشديد والمبالغة... وأما مَن أخَّرَه لأمرٍ عارضٍ أو اختيارًا مع اعتقاد أن صومه قد كَمُلَ بغروب الشمس فلا يكره له ذلك. رواه ابن نافع عن مالك في "المجموعة"] اهـ.
وقال الإمام الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 399، ط. دار الفكر): [قال في "النوادر": قال أشهب: وواسع تعجيل الفطر، وتأخيره للحاجة تنوب، ويكره أن يؤَخِّره تَنَطُّعًا يتَّقِي أن لا يجزئه، وهو معنى الحديث في أن لا يُؤخِّر، ثم قال: وإنَّما يُكرَه تأخير الفطر استنانًا وتَدَيُّنًا، فأمَّا لغير ذلك فلا، كذلك قاله أصحاب مالك] اهـ.
وقال العلامة العدوي في "حاشيته على شرح الخرشي مختصر خليل" (2/ 240، ط. دار الفكر): [يكره تأخير الفطر إذا كان على وجه التشديد... وأمَّا من أخَّرَه لأمرٍ عرض، أو اختيارًا مع اعتقاد كمال صومه فلا يكره كذا قالوا، والظاهر أنَّ المراد نفي الكراهة فقط فلا ينافي في أنَّه خلاف الأَوْلى] اهـ.
وقال الإمام الشافعي في "الأم" (2/ 106، ط. دار المعرفة): [وأحبُّ تعجيل الفطر وترك تأخيره وإنَّما أكره تأخيره إذا عمد ذلك كأنَّه يرى الفضل فيه] اهـ.
وقال الإمام النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 360، ط. دار الفكر): [قال القاضي أبو الطيب في "المجرد": قال الشافعي في "الأم": إذا أخَّر الإفطار بعد تحقق غروب الشمس، فإن كان يرى الفضل في تأخيره كرهت ذلك لمخالفة الأحاديث، وإن لم يرَ الفضل في تأخيره فلا بأس؛ لأنَّ الصوم لا يصلح في الليل] اهـ.
وعلى فرض التسليم بالكراهة -ولو لم يكن على جهة التدين-، فإنَّ الكراهة تزول بأدنى حاجة؛ كما قرَّره فقهاء الحنفية والحنابلة.
قال الإمامُ ابن مازه الحنفي في "المحيط البرهاني" (5/ 403، ط. دار الكتب العلمية) في معرض حديثه عن كراهة الخرقة التي تُحمل ويمسح بها العرق: [والحاصل أن من فعل شيئًا من ذلك تكبرًا فهو مكروه وبدعة، ومن فعل ذلك لحاجة لا يكره] اهـ.
وقال العلامةُ السفاريني في "غذاء الألباب" (2/ 22، ط. مؤسسة قرطبة): [(ويكره حقن المرء) أي الإنسان من ذكر وأنثى (إلا ضرورة) يعني حاجة؛ إذ الكراهة تزول بأدنى حاجة على قاعدة المذهب] اهـ.
غير أنَّ جواز تأخير الفطر وترك السحور مقيَّدٌ بألَّا يترتب عليه إلحاق ضررٍ ببدن المكلَّف؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" وابن ماجه في "سننه".
وهو أصلٌ عام في الشريعة الغراء تحول مراعاته بين الإنسان وبين كل ما يمكن أن يسبب له الضرر؛ على مستوى الأفراد والجماعات.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ سنة تعجيل الفطر تحصل بالشيء اليسير ولو بقليل الماء، وهو ما نصَّ عليه فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية.
قال الإمام الشُّرُنْبُلَالِي الحنفي في "مراقي الفلاح" (ص: 257، ط. المكتبة العصرية): [(وتعجيل الفطر في غير يوم غيم)... ولو بالماء] اهـ.
وقال الإمام الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 398): [قال الجزولي: إنَّه يفطر بالشيء اليسير ويصلي وحينئذٍ يأكل؛ لأنَّه يُستَحبُّ له تعجيل الفطر قبل الصلاة ولو بالماء] اهـ.
وقال العلامة جلال الدِّين المحلي في "كنز الراغبين" (2/ 78، ط. دار الفكر، ومعه "حاشيتا قليوبي وعميرة"): [(ويُسَنُّ تعجيل الفطر) إذا تحقَّقَ غروب الشمس] اهـ.
قال الشيخ قليوبي مُحَشِّيًا عليه: [قوله: (تعجيل الفطر) بغير الجماع ولو على الماء، وإن رجي غيره] اهـ.
ويدل على ذلك: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: «ما رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قَطُّ صلَّى المغرب حتى يُفطِر، ولو على شربةٍ من ماء» أخرجه ابن حبان في "صحيحه".
قال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (5/ 186، ط. المكتبة التجارية): [(كان لا يصلي المغرب) إذا كان صائمًا (حتى يفطر) على شيء (ولو على شربة ماء) بالإضافة، لكنَّه كان إن وجد الرطب قدَّمَه وإلَّا فالتمر وإلا فحلو، فإن لم يتيسَّر فالماء كافٍ في حصول السنة] اهـ.
كما أنَّ سنة السحور تحصل كذلك بالشيء اليسير ولو بشرب قليل الماء، كما نصَّ عليه فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة.
قال الإمام الحَطَّاب المالكي في "مواهب الجليل" (2/ 401): [يحصل السحور بقليل الأكل وكثيره ولو بالماء] اهـ.
وقال النووي الشافعي في "المجموع" (6/ 360): [يحصل السحور بكثير المأكول وقليله ويحصل بالماء أيضًا] اهـ.
وقال الإمام ابن قُدَامة الحنبلي في "المغني" (3/ 174، ط. مكتبة القاهرة): [كلُّ ما حصل من أكلٍ أو شُربٍ حصل به فضيلة السحور] اهـ.
ويدل لذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ، فَلَا تَدَعُوهُ، وَلَوْ أَنْ يَجْرَعَ أَحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الْمُتَسَحِّرِينَ» أخرجه الإمام أحمد في "مسنده".
الخلاصة
بناءً على ذلك: فيجوز للمُكلَّف تأخير الفطر، وكذلك الصوم من غير سحور؛ إعانةً له على كسر الشهوة، ما لم يترتب على ذلك إلحاق الضرر ببدنه، كما أنَّ سنة تعجيل الفطر والسحور تحصل ولو بتناول قليل من الماء.