عبدالحليم قنديل يكتب: ماذا يفعل الرئيس؟

السبت، 14 نوفمبر 2015 09:16 م
عبدالحليم قنديل يكتب: ماذا يفعل الرئيس؟
عبد الحليم قنديل

كل أزمة تنطوى على فرصة ، وبوسع الرئيس عبد الفتاح السيسى أن يحول الأزمة الحالية ، وهى أكبر أزمة تواجه النظام الحالى فى مصر ، بوسع الرئيس أن يحولها إلى فرصة هائلة ، تعيد النظر جوهريا فى مسيرة عام ونصف من الحكم بالقطعة ، وتبنى نظاما جديدا بالجملة ، وباختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية ذات قاعدة شعبية واسعة.

عنوان الأزمة بات معروفا ، وهو الحصار الغربى الجارى لوقف تدفق السياح إلى مصر ، وإشاعة إيحاءات كاذبة بأن البلد يفتقر إلى عنصر الأمن الضرورى ، وبما يقلص حركة الاستثمارات ، ويهدف للتجويع وضرب الاقتصاد ، وإرغام النظام المصرى على تجميد العلاقات النامية والمتطورة مع روسيا ، وإعادة مصر إلى حظيرة علاقات التبعية الموروثة لواشنطن والغرب عموما ، وما من أحد عاقل ، ينكر مغزى ما جرى إثر حادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء ، وبدء حملة مخططة ومنسقة للهجوم على مصر ، بدأت من إسرائيل ، التى أعد جهاز مخابراتها "الموساد" تقريرا عن حادث الطائرة ، لم تبلغ به مصر عبر قنوات المخابرات المفتوحة ، وإنما أمدت به أجهزة المخابرات البريطانية والأمريكية ، والتى نسبته إلى نفسها ، كما قالت صحيفة "جويش كرونيكل" اليهودية البريطانية صباح زيارة السيسى إلى لندن ، ثم أعلنت إسرائيل رسميا فيما بعد عما جرى ، وهكذا اكتملت القصة المروجة ، والتى تتحدث عن اعتراضات مخابراتية لاتصالات هاتفية والكترونية بين قادة "داعش" فى سوريا وعناصرها فى سيناء ، تفيد الإعداد لعملية كبرى مدوية فى سيناء ، أو تزهو وتتباهى ـ فى قول آخر ـ بنجاح "داعش" فى إسقاط الطائرة الروسية ، ثم أضافت المخابرات الأمريكية للقصة فول وفلافل "الوهج الحرارى" الذى قبل أن الأقمار الاصطناعية التقطته ، وفيما أصبح معروفا بسيناريو القنبلة ، والتى تسربت إلى أمتعة الركاب الروس ، وبما يوحى بخرق أمنى فى مطار "شرم الشيخ" الذى أقلعت منه الطائرة المنكوبة ، وهو ما لم يثبت بعد لدى لجنة التحقيق الدولية المكلفة بالفحص الفنى ، والمكونة من خبراء مصريين وروس وفرنسيين وألمان وأيرلنديين ، ولم تكلف أجهزة المخابرات المدعية ، ولا دولها التى تدعى صداقة مصر ، لم تكلف نفسها عناء وواجب تزويد لجنة التحقيق الدولية بالمعلومات المتوافرة ، وكانت تلك أول سقطة كشفت المستور ، ثم كانت السقطة الثانية بعدم إبلاغ المخابرات المصرية بالمعلومات إياها وفقا لنصوص قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بمكافحة الإرهاب ، ثم كانت السقطة الكبرى ببدء حملة سياسية وإعلامية جهولة ضد مصر ، وصلت إلى حد الادعاء المثير للسخرية باستهداف صاروخ حربى مصرى لطائرة مدنية بريطانية ، ثم جرى انخاذ زيارة السيسى إلى لندن منصة إطلاق للحرب ، وأعلن رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون ـ فى جلافة ظاهرة ـ عن سحب السياح من مصر ، وبما استدعى ـ بحركة قطع "الدومينو" ـ سحبا لسياح دول عديدة بمن فيهم الروس ، وبادعاء وجود خطر ماثل على حياتهم ، فيما لم يكن من وجود لخطر على الإطلاق ، فشرم الشيخ المشرقة أكثر أمانا من لندن المعتمة ، ومطارها أكثر أمانا من مطار "هيثرو" ، والإجراءات الأمنية المتبعة فى "شرم الشيخ" ، راجعتها لندن بنفسها مرارا وتكرارا عبر عشرة شهور مضت ، ثم أن حوادث الطائرات وقعت وتقع بالعشرات ، ولم يترتب على أى منها مقاطعة سفر للدول التى وقعت على أراضيها ، ولا تحريم الإقلاع والهبوط فى مطاراتها ، وبينها حوادث إرهابية لطائرات انطلقت من مطارات أمريكا وبريطانيا ، وعلى طريقة حادث طائرة "بان أميركان" الشهير ، والتى تحطمت وقتل جميع ركابها على أراضى "لوكيربى" البريطانية ، وحوادث طائرات تدمير برج التجارة العالمى ومبنى البنتاجون فى سبتمبر 2001، ولم يطلب أحد وقتها مقاطعة المطارات الأمريكية والبريطانية ، ولا طلب أحد مقاطعة مطارات ماليزيا بعد تتابع سقوط طائراتها قبل شهور ، والأمثلة لا تحصى فى بلدان الدنيا كلها ، لكن الغرض مرض كما تقول الحكمة الشائعة ، فالقصة ليست فى حادث الطائرة الروسية ، بل القصة فى انتهاز وربما اصطناع الفرص ، فحتى لو ثبتت صحة سيناريو القنبلة افتراضا ، وحتى لو صار حقيقة مسلما بها بعد اكتمال أعمال لجنة التحقيق الدولية ، فهذه ليست نهاية العالم ، وخطر الإرهاب وارد فى كل زمان ومكان ، وإجراءات الأمن فى سباق دائم مع ما يستجد من خطط الإرهاب ، وإن كان تتابع الوقائع يوحى بما هو أخطر هذه المرة ، فتقارير المخابرات ـ إياها ـ تثبت التواطؤ العلنى المفضوح مع ادعاءات "داعش" ، بل ربما تثبت احتمال التخطيط المشترك بين "داعش" ورفاقها الإسرائيليين والأمريكيين والبريطانيين ، وهو ما صارت القاهرة تدرك مغزاه يقينا ، وتتصرف على أساسه مع موسكو ، وهو ما يفسر الإعلان الرسمى الروسى بعدها عن مفاوضات توريد صواريخ "إس 300" إلى الجيش المصرى ، فقد جرى إفشال عملية "دق الإسفين" فى علاقات القاهرة وموسكو ، وتبقى رد القاهرة نفسها على الحملة التى كلفت بقيادتها بريطانيا ، والتى لم تنس أبدا ، أن مصر هى التى قطعت "ذيل الأسد" البريطانى فى معركة السويس1956 ، وعجلت بنهاية الامبراطورية البريطانية التى كانت لا تغرب عنها الشمس .

نعود إلى الخيط الأساسى ، وهو الفرصة التى تنطوى عليها الأزمة ، والتى تتطلب ردا فى الداخل قبل وبعد الخارج الدولى ، فبريطانيا هى المحتل السابق لمصر سياسيا وعسكريا ، وأمريكا هى المحتل اللاحق سياسيا ، والتى آل إليها دور "المندوب السامى" فى مصر ، وعلى مدى عقود تلت سريان اتفاقية العار المعروفة باسم معاهدة السلام ، والتى لحقتها المعونة الأمريكية الضامنة ، وقد هددت واشنطن بخفض أو قطع المعونة بعد إزاحة حكم الإخوان المفضل أمريكيا كحكم المخلوع مبارك ، ونزل التهديد الأمريكى بردا وسلاما على قلوب المصريين ، فلا شعب يكره السياسة الأمريكية كما الشعب المصرى ، ولم تبال القيادة الجديدة بالتهديدات ، والتى جرى تنفيذها فعليا عبر 14 شهرا فى المدة من سبتمبر 2013 إلى نوفمبر 2014 ، واضطرت واشنطن بعدها إلى التراجع جزئيا ، وبدأ الإفراج عن طائرات "الأباتشى" وطائرات "إف ـ 16 " المقرر توريدها إلى مصر ، ودون أن يؤثر التهديد ولا التراجع على خطة كسب الاستقلال الوطنى ، وتنويع مصادر السلاح ، وتطوير صناعة السلاح المصرية ، وتعظيم القوة الذاتية للجيش ، ومد سيطرة قوات الجيش المصرى إلى خط الحدود الدولية المصرية الفلسطينية ، وفى واقعة تحدث لأول مرة منذ ما قبل هزيمة 1967 ، وبما أنهى شروط ومناطق نزع السلاح فى سيناء بحسب الملحق الأمنى لمعاهدة العار ، ثم أكدت مصر خروجها التدريجى المدروس من خيمة التبعية الأمريكية ، وقررت رفض عروض أمريكا وبريطانيا الغبية بتوفير مساعدة مسلحة أو استشارية فى سيناء ، وقررت استئناف مشروعها النووى السلمى بعد توقف دام لأربعين سنة ، وبدت الخطوات المتتابعة موجعة لواشنطن ، فهى تكاد تفقد سلطانها فى مصر ، فأمريكا تحتفظ فى مصر بما كان أكبر سفارة من نوعها فى العالم ، ثم نزلت إلى المرتبة الثانية بعد سفارة واشنطن فى العراق بعد احتلاله ، وثمة 31 ألف أمريكى رسمى وشبه رسمى فى مصر ، والتى راحت تطور سياسة التوجه شرقا ، وأيدت التدخل الروسى فى سوريا ، ودخلت طرفا مؤثرا فى عملية إنقاذ سوريا من التحطيم والتفكيك النهائى ، وهو ما كان يتوقع معه بالبداهة ، أن تلجأ واشنطن لخطط إخضاع مصر ، حتى لو تورطت فى عملية مكشوفة لإسقاط السيسى ، وعلى نحو ما جرت عليه "البروفة الغربية" بعد حادث الطائرة الروسية ، فلم تعد أمريكا تثق فى خطة إحتواء مصر بالكلام الدبلوماسى الناعم ، ولا بقطرات المعونة العسكرية ، فالقيادة المصرية تتمتع بمهارة براجماتية ظاهرة ، وهو ما يدفع واشنطن إلى الانتقال من الإحتواء الفاشل إلى الضغط الداهس ، والتحرك لإنهاك الوضع الاقتصادى ، خاصة وأنها تعرف ما صنعته سياستها بمصر واقتصادها ، وتدمير أساسه الانتاجى بالخصخصة و"المصمصة" ، وتحويله إلى اقتصاد ريع ومعونات ، يعتمد على عوائد السياحة كمصدر رئيسى ، إلى جوار رسوم المرور فى قناة السويس وتحويلات العاملين المصريين بالخارج ، وكلها موارد هشة عرضة لتقلبات السياسة ، ومن هنا نفهم سر حملة الحصار الجارية ، والتى كلفت "بريطانيا" بدور رأس الحربة فيها ، فلم يعد لبريطانيا من دور سوى كونها "ذيل الكلب" الأمريكى ، وواشنطن تلجأ إلى لندن لخبرتها الطويلة التاريخية بالمنطقة وبأحوال مصر بالذات ، وهو ما يفسر مسارعة أوباما والبيت الأبيض إلى دعم تصريحات وحملة ديفيد كاميرون المتفق عليها ، فوق أن واشنطن تملك فى مصر قوى وجماعات ضغط لاتزال مؤثرة جدا ، بينها جماعات مثقفى " المارينز" ، وأظهرها جماعة "رأسمالية المحاسيب" ، والتى تشكل بامتداداتها نحو واحد بالمئة من السكان ، يملكون نصف الثروة المصرية بالتمام والكمال ، وكانت "المعونة الأمريكية" هى الحاضنة والمولدة الأولى لمليارديرات "رأسمالية المحاسيب" ، والتى تحالفت مع البيروقراطية الفاسدة فى جهاز الدولة المتهالك ، وكونت ما قد تصح تسميته "تحالف المماليك" المسيطر إلى الآن على الاقتصاد والحكومة والإعلام ، ويشكل أكبر خطر على الرئيس السيسى ، فلا يكفى جهد الرجل المقدر لتحرير الجيش من سيطرة واحتكار التسليح الأمريكى ، بل لابد ـ فيما نعتقد ونسعى ـ من جهد أكبر لتحرير الاقتصاد والمجتمع من "تحالف المماليك" الموالى موضوعيا للأمريكيين ، وخطر "المماليك" أكبر من خطر "الإخوان" الذى صار هامشيا ، وخطر الفساد أكبر من خطر الإرهاب الذى تتراجع معدلاته ، والمعنى الذى نقصده ظاهر جدا ، فلا يمكن صنع وإدامة سياسة خارجية مستقرة بدون تغير جوهرى وجراحة كبرى فى الاختيارات الداخلية ، وإنهاء الفصام النكد الذى يعيشه النظام إلى الآن ، فثمة رئيس جديد لا يزال يحكم بالنظام القديم نفسه وثمة رئيس يحكم بلا مؤسسة رئاسة تسند ، ويبدو وحيدا متروكا إلا من دعم الجيش ، وثمة فوضى هائلة فى الوضع الداخلى ، تخلق بيئة هشة يستفيد بها الضغط الخارجى والأمريكى بالذات ، ويجند لها أعوانه فى اقتصاد وإعلام الداخل ، ويعزل حركة وقرارات الرئيس عن حس ومصالح الأغلبية الشعبية الأوسع من الفقراء والطبقات الوسطى ، والتى تشكل 90% من المصريين ، لا يملكون بالكاد سوى ربع الثروة الوطنية ، وينهشهم الفقر والمرض والبطالة والبؤس وخيبة الأمل ، وهؤلاء هم الحصن الحصين لأى حاكم يتطلع إلى خدمة شعبه ، وقد نفذ صبرهم أو يكاد ، وقاطعوا بالأغلبية انتخابات البرلمان فى نوبة عصيان مدنى على طريقة "خليك فى البيت" ، وبدت المقاطعة الواسعة كإنذار غضب للرئيس السيسى ، تطالبه أن يفعل شيئا قبل فوات الأوان ، وقد جاءت الفرصة للرئيس على طبق من ذهب ، فالضغط الخارجى يولد تعبئة وطنية عامة ، وبوسع الرئيس أن يحول التعبئة إلى فرصة إنقاذ ، وأن يعلن الحرب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فى الداخل ، ليس بالقطعة على طريقة ضبط قضايا الفساد ومطاردة مليارديرات النهب التى تتلاحق بوادرها الآن ، بل بضربة كاسحة لكنس الفساد ، وتعجل ب "مذبحة مماليك" تأخرت مواعيدها كثيرا ، وإن لم يفت أوانها تماما .

[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق