الإسكندرية «سيدة الخيال» تلهم مبدعين الغرب حتى اليوم

الأربعاء، 13 أبريل 2016 08:41 ص
الإسكندرية «سيدة الخيال» تلهم مبدعين الغرب حتى اليوم
صورة موضوعية

سواء على مستوى الأبنية المادية أو الأفكار مازالت الأسكندرية تزين عناوين الكتب الجديدة في الغرب ومازالت "سيدة الخيال" تلهم المبدعين في الغرب وتثير نقاشات عميقة بقدر ماهي مشوقة في الصحافة الثقافية الغربية .

وهاهو جاك شينكر في مجلده الجديد الذي صدر بعنوان :"قصة المدن" يقول في الجزء الأول من هذا السفر المعرفي المبهر والذي اهتمت به الصحافة الثقافية الغربية أن الأسكندرية وضعت أساس العالم المعاصر.

والعمل الجديد للكاتب والباحث البريطاني جاك شينكر يركز على دراسة تاريخ التطور الحضري في العالم ويبحر في تاريخ الأسكندرية كحاضرة ضاربة في أعماق الزمان ، مؤكدا أن هذه الحاضرة المصرية التليدة أرست السوابق للتصورات المستقبلية حينئذ للمدن على امتداد العالم.

وفي الجزء الأول من "قصة المدن" سيجد القاريء حديثا حول "سر الأسكندرية" وهو سر ذهب بعض كبار المؤرخين الكلاسيكيين الى أنه يكمن في "صندوق ذهبي صغير مرصع بالمجوهرات والأحجار الكريمة" وهو صندوق صغير حتى أنه بالوسع حمله بيد واحدة وقيل أنه من غنائم الحرب التي وجدت ضمن مقتنيات الملك الفارسي داريوس الثالث منذ أكثر من 2300 سنة.

ولم يكن الرجل الذي هزم داريوس الثالث سوى المقدوني الأشهر الأسكندر الأكبر فيما تقول الروايات التاريخية المثبتة في هذا السفر المعرفي الجديد الصادر بالانجليزية أن الأسكندر وضع أهم ماغنمه من عدوه داريوس داخل هذا الصندوق الذهبي.

ووسط هذه الأجواء الأسطورية والغاز التاريخ وأسراره والصندوق الذهبي الذي حمله الأسكندر الأكبر لجزيرة فاروس وحتى ملحمة هوميروس الشعرية اليونانية المعروفة "بالأوديسة" يمضي جاك شينكر في نسج خيوط قصة المدن عبر العالم والتي كانت الأسكندرية تشكل لها النموذج والقدوة بعد أن باتت سيدة المدائن والمدينة الأكثر روعة في العالم القديم.

ولئن ذهب بعض المؤرخين إلى أن سر الأسكندرية يكمن في صندوق ذهبي صغير فان جاك شينكر يذهب في كتابه الجديد إلى أن "الأسكندرية الأصلية" ترقد اليوم تحت ألفي عام من التطور الحضري معيدا للأذهان أن بعض كتل أقدم معابدها وصروحها المعمارية لم تنقل للقاهرة فحسب وإنما نقلت لما هو أبعد في لندن ونيويورك فيما حطم بعضها الآخر جراء الزلازل والغزوات العسكرية أو طمرت غاطسة تحت مياه البحر.

ويتداخل التاريخ المادي والتاريخ المعنوي مع طبقات فوق طبقات من التراث الشعبي وحكايات الفلكلور السكندري وهنا أيضا قد يصح القول من المنظور الثقافي الشامل أن حواضر قليلة في هذا العالم أوغلت في الأساطير وتحولت هي ذاتها إلى أسطورة كحال الأسكندرية .

ويصعب على أية مدينة أخرى-كما يوضح هذا الكتاب الجديد-ان تجمع كل حكايات العالم وان تجتمع كل هذه الحكايات فيها كما فعلت الأسكندرية وكما حدث فيها فاذا بها تكتب فصلا متفردا في عملية التطور التاريخي الحضري للعالم.

وفي كتاب "أول المدينة" يقول المؤلفان هوارد رايد وجوستين بولارد أن الأسكندرية كانت أعظم بوتقة ذهنية عرفها العالم وفي أبهاء هذه المدينة المصرية وأروقتها وردهاتها وضعت الأسس الحقيقية للعالم الحديث ليس على مستوى الحجر فحسب وانما على مستوى الأفكار.

ومن الكتب الجديدة الصادرة بالانجليزية عن الأسكندرية ذلك الكتاب الذي صدر بعنوان "الأسكندرية : الليالي الأخيرة لكليوباترا" ومؤلفه هو الكاتب البريطاني بيتر ستوثارد الذي عرف باهتمامه بالشخصيات التاريخية واصدر من قبل كتاب " على طريق سبارتاكوس" وكان قد استكمل قكرة كتابه الجديد عن كليوباترا من زيارة قام بها للأسكندرية عام 2011 لأن الفكرة كانت تراوده منذ أن كان في ميعة الصبا .

وفي الكتاب يتحدث ستوثارد عن أمجاد الأسكندرية بمكتبتها القديمة ومنارتها وملكتها كليوباترا دون أن يغفل حاضرها وجولاته بين مقاهيها وحاناتها ومطاعمها وفنادقها فيما يكشف النقاب في مقدمة الكتاب أنه شرع 7 مرات من قبل للبدء في انجاز كتابه عن كليوباترا لكنه كان يتوقف في كل مرة ، منوها بجهود امرأة اكتفى للاشارة لها بحرف "في" وشجعته كثيرا لاستكمال الكتاب الذي يوميء ايضا لتسامح الأسكندرية ورحابتها الفكرية ومرح اهلها واقبالهم على الحياة في الأيام الخوالي بمدينة كانت ذات طابع كوني و"كوزموبوليتانية" حقا وتعبر ثقافيا عن العالم ككل حتى في فنون العمارة .

وثمة معالم سكندرية قديمة يتذكرها العالم المعاصر ويحتفل ويحتفي بها : المنارة والمكتبة والمتحف ولكن جاك شينكر يرى أن تأثير الأسكندرية في الحياة المعاصرة للعالم بدأ بتصميمها الشامل وبنيتها الكلية برؤية تبناها دينوكراتيس كبير مهندسي العمارة للأسكندر الأكبر وتصور تجلى في نسيج معماري يجمع بحياكة بارعة مابين المجال العام والحيز الخاص كما يجمع مابين المشهدية والوظيفة وبين اليابسة والبحر.

وحتى الطيور كانت تندفع بهوس نحو الأسكندرية لتقتات من أقوات المدينة المصرية الكريمة التي بدت وكأنها تطعم العالم كله فيما كان من الطبيعي لمدينة بكل هذه الأريحية أن تلهم الشعراء وكل المبدعين مثل الشاعر اليوناني الراحل قسطنطين كفافي.

وكفافي الذي ولد عام 1863 وقضي في عام 1933هو بحق أحد البنائين العظام لصورة الاسكندرية في المخيال الثقافي العالمي وهو المثقف الكبير الذي يعبر بدقة عن مدى التواشج بين الأسكندرية واثينا وكان له أن يتحول لمصدر إلهام لغيره من المبدعين مثل القاص والشاعر البريطاني لويس دي بيرنيريه الذي أصدر كتابا بعنوان:"مخيال الأسكندرية..قصائد لذكرى كفافي".

ولويس دي بيرنيريه حريص دوما على أن يعرف نفسه بأنه "شاعر قبل وبعد كونه قاصا" ، موضحا أن الشعر كان منبع إلهامه الروائي ومحركه في مسيرة الحكي وتعد مجموعته الشعرية أول ديوان ينشره وقد نذره لتكريم قسطنطين كفافي ذلك الشاعر اليوناني الذي ولد في الأسكندرية وعاش واقترن بها أغلب سنوات العمر واحتواه ثراها .

والشاعر لويس دي بيرنيريه صاحب "طيور بلا أجنحة" و"مع ان" و"مندولين الكابتن كوريللي" شغوف بكفافي صاحب "ايثاكا" و"في انتظار البرابرة" حتى انه يكشف عن ان مجلدا لأعمال كفافي لم يفارقه على مدى 30 عاما ولم يكف عن القراءة فيه يوميا طوال هذه السنوات مبهورا بصراحتها ونبضها المفعم بالحنين وبتأوهات الألم دون شعور بالذنب .

وفي صحيفة الأوبزرفر البريطانية تقول الناقدة كاتي كيلاواي أن لويس دي بيرنيريه يبدو مفتونا بالشاعر الذي كان مفتونا بدوره بالاسكندرية ليخرج القاريء في نهاية المطاف راضيا مرضيا وتلك سمة الأبداع الحق فالكثير ممن ندبوا أنفسهم للكتابة يكتبون لكن ماالذي يبقى مما كتبوه في قلب القاريء وعقله؟!.

والحب حاضر في مجموعة "مخيال الاسكندرية" والشاعر يتحدث عن ذلك الرداء الضارب للسمرة الذي اشتراه لأمرأة شابة بآخر 12 شلنا كانت في جيبه مع رومانسية تركت للقلب العنان ليقتفي آثار الخطى بحثا عن "المرأة الحلم" كما المجموعة احتوت قصائد فيها من الجرأة ووعود المجون مايكفي للتذكير بكفافي.

وفي الاسكندرية التقى كفافي بمثقفين وادباء كبار قدر لهم ان يتركوا بصمات عميقة في الأدب على مستوى العالم ومن بينهم اي.ام.فورستر صاحب الرواية الشهيرة "الطريق الى الهند".

وبالتأكيد الأسكندرية حاضرة دوما فى المشهد الثقافى الغربى بفضل مبدعين كبار في الغرب وقعوا في هوى هذه المدينة المصرية او اثاروا جدلا لاينتهي برؤى متعددة لتلك المدينة كما هو حال الروائي البريطانى الراحل لورانس داريل صاحب "رباعية الأسكندرية" والذى يوصف "بعوليس العصر الحديث".

وفى خضم الاحتفاليات الثقافية الغربية بالمئوية الأولى لميلاده منذ نحو أربعة اعوام -صدرت حينئذ طبعات جديدة من "رباعية الأسكندرية" سواء بالانجليزية فى بريطانيا أو بالفرنسية فى باريس ، حيث احتفت دور نشر فرنسية متعددة بهذه الذكرى ليظهر عمله الروائى الكبير الذى ظهر أول مرة بالانجليزية والفرنسية فى نهاية الخمسينيات وبدايات الستينيات من القرن العشرين كما ترجم للعربية .

ومن أشهر ترجمات رباعية الأسكندرية للعربية تلك الترجمة التى أنجزها الكاتب والمترجم المصرى فخرى لبيب فيما يرى الناقد سام جورديسون بصحيفة الجارديان أنه يصعب العثور فى خمسينيات القرن العشرين على عمل روائى يناقش بكل هذه الرحابة قضية الحب وعلاقاتها المتشابكة بالسياسة والخيانة وأحوال القلب وتقلباته مثلما فعل الروائي الراحل لورانس داريل فى رباعيته.

وإذا كان لورانس داريل المنحدر من أصل أيرلندى والذى ولد فى الهند قبل أن ينتقل فى طفولته لبريطانيا هو الكاتب والشاعر المهموم "بروح الأمكنة" فان الاسكندرية كانت الحلم والمثال بقدر ماكانت أنشودة حب وبحث يائس عن الخلاص فى عالم فظ.

ومع أن الحب بالمعنى الرومانسى يتجلى بوضوح فى رباعية لورانس داريل فان بعض النقاد ذهبوا لتأويلات شتى وتبنوا أراء قد تختلف فيما بينهم بقدر اختلافها عن المعانى الظاهرة فى رباعية الأسكندرية وهاهو سام جورديسون يستعيد فى صحيفة الجارديان البريطانية العمل الروائى الكبير للورانس داريل: "رباعية الأسكندرية" حيث تحول الحب على حد قوله إلى نوع من المؤامرة ليبقى السؤال الكبير:"من بمقدوره أن يصل لجوهر حقيقة الحب"؟!.

أحد المهمومين بهذا السؤال الكبير هو لويس دي بيرنيريه عاشق الأسكندرية او تلك المدينة المصرية الكونية الساحرة الفاتنة المثيرة دوما للجدل فيما يقول في قصيدة "لليلة واحدة فحسب": الليل طويل والبحر يغض النظر وهو يحوي حبيبين اندسا فيه يدا بيد وانزلقا من الشاطيء..حتى النجوم غضت النظر لينعما ببعض الوقت قبل الفراق في وسط الطريق..قبل ان يمضي كل حبيب في طريق!!.
الاسكندرية هي حقا مدينة الرمز والمجاز ومعصرة الحب الكبيرة التى عاشت وتعايشت فيها كل الأجناس والأعراق والملل والنحل" ومهد شعراء خطوا اسماءهم فى تاريخ الشعر العالمى مثل كفافي وجورج شحادة واونجاريتى..انها "سيدة الخيال" : الأسكندرية الموشومة بالفضة..الجميلة كالأزهار..المثيرة للأسرار..يتناثر الكرز من افق يديها وهي تمعن في الابحار!.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق