فكرة مهند أول الغيث
الأحد، 12 ديسمبر 2021 10:00 ص
تدريس كتاب «القيم واحترام الآخر» في المدرسة أمر طيب للغاية ويجب البناء عليه لأن الاستهانة بحقوق الآخر عاقبتها أوخم مما يتوقع كثيرون
التعليم ،
أصبح شائعًا استخدام تعبير" كل واحد يبص في ورقته"، وبعضهم يكون غاضبًا فيقول: " كل قرد يلزم شجرته".
أما أصحاب الأسلوب الدبلوماسي فيطالبون بأن يلتزم كل واحد بحدوده فلا يتجاوزها.
شيوع كل هذه الجملة ذات الدلالة الخاصة له ما يبرره، فهذه الجملة لم تنطلق من الفراغ بل من حاجة أصبحت ضرورية لمراجعة مفهومنا لحدودنا الشخصية ولمساحتنا الخاصة ومن ثمّ لحدود الآخر ومساحة خصوصيته.
إننا جميعًا وبدون أدنى استثناء نقع ضحايا لشر من الشرين، فإما أن نكون ضحايا لشر انتهاك مساحتنا الخاصة، وإما أن نكون نحن الجناة وننتهك مساحات الآخرين.
وفي هذا السياق أذكر ولا أنسى أبدًا أنني كنت شاهدًا على معركة حامية الوطيس اندلعت نيرانها بين سيدة ناضجة ورجل مسن، كنا جميعًا نجلس متقاربين في كافتيريا، وكانت السيدة قد تلقت اتصالًا على هاتفها المحمول، وعندما بدأت في الرد على محدثها فتحت علينا كل بوابات الجحيم، من كلام السيدة ومن صوتها الحاد المرتفع عرفنا أدق أسرار أسرتها، من فلانة التي تخون زوجها إلى علان الذي يأكل المال الحرام إلى ترتان الذي ضرب أمه بالشبشب.
كنت ضائقًا أشد الضيق بهذا السيل من الحكايات المخجلة التي يجب دفنها في سابع أرض، ولكن خفت أن أشير للسيدة بأن تخفض صوتها على الأقل، فمن أدراني فقد تتهمني السيدة باتهام يقسمني لنصفين.
الرجل المسن كان أشجع مني فقد ضرب المنضدة بقبضة يده وقال للسيدة: "يا ستي الحاجة، ما ذنبنا نحن لكي نسمع كلامك عن قريبتك التي تخون زوجها أو عن قريبك الذي يضرب أمه بالشبشب، ارحمينا يرحمك الله".
طبعًا السيدة لم ترحمنا فقد تركت مكالمتها التلفونية وتفرغت لـ"الردح" للرجل المسن.
بدأت باتهامه بأنه يتنصت، وظلت تبحث عن تهمة أبشع حتى وجدتها فقد قالت إن الرجل جاسوس، لأن الجواسيس فقط هم الذين يسترقون السمع، ثم قالت: أنا أتحدث من موبايلي وليس من موبايله وأنا حرة في قول ما أريد قوله، وعلى المتضرر مغادرة المكان أو وضع عجين وطين في أذنيه.
لم يستطع الرجل الدفاع عن نفسه لأن السيدة كانت تلقي بالاتهامات بأسرع من طلقات المدفع الرشاش، وأخيرًا انتهز الرجل فرصة سكوت السيدة لابتلاع أنفاسها فتنهد في يأس وقال: أنت ارتكبت عدة جرائم، منها سبي وقذفي، ولكن جريمتك الكبرى هي تلك التي قمت بارتكابها ضد نفسك، أنت تنتهكين أسرار أسرتك وتنشرين ملابس عائلتك المتسخة على الملأ ولا يردعك رادع.
كلام الرجل فتح باب المشاركة من الحاضرين، ولم أتعجب عندما وجدت الغالبية ضده وتتهمه بدس أنفه في قضايا لا تخصه.
للحق لم يسانده أحد، فقد كنا بين خائف من سلاطة لسان السيدة، وبين متعاطف معها لأنها مارست الفضفضة!
الخائفون مثلي كانوا يرون أن السيدة لم تمارس الفضفضة بل قامت بانتهاك مساحات الآخرين الخاصة وفرضت عليهم بصوتها المرتفع المسموع سماع ما لا يعنيهم.
غادر الرجل مهزومًا وعادت السيدة لسبه لأنه تدخل فيما لا يعنيه.
تلك الواقعة ـ التي لا أراها بسيطة ـ تصلح تفسيرًا لحالة من حالاتنا الاجتماعية، إنها حالة التصرف وكأن الكون ليس به سوانا وكأن مشاكلنا يجب فرضها على الآخرين بل يجب مطالبتهم بحلها!
إن الذي لا يحترم الآخر هو في الحقيقة لا يحترم ذاته، لأنه بتعديه لحدوده يعرض ذاته لرد فعل من الآخر قد يكون ساحقًا.
إن احترام الآخر ليس بالأمر الهين الذي نكتسبه بين عشية وضحاها، بل هو عملية شاقة تحتاج إلى مران وتدريب يبدأ منذ الصغر، ويتواصل على مدار سنوات الحياة ولا يتوقف للحظة، إنه تيار متدفق يتغلب بإصراره وعزيمته وقوته على كل العوائق التي تعترض طريقه.
أعتقد أن الدولة قد وضعت يدها على خيط البداية لحل تلك المشكلة العاصفة، فقد عرفنا أن طفلًا يدعى مهند وهو من ذوي الهمم قد طالب من رئيس الجمهورية فرض مادة دراسية عن احترام الآخر في المدارس، وقد استجاب الرئيس لدعوة مهند، وهو الأمر الذي كشفه وزير التربية والتعليم الدكتور طارق شوقي الذي صرح لبرنامج تلفزيوني بأن الرئيس السيسي قد أكد أهمية تطبيق فكرة الطفل مهند، وتمّ تنفيذها بالفعل، من خلال إعداد كتاب «القيم واحترام الآخر» والذي يتمّ تدرسيه في الصف الثالث الابتدائي، ولكن هذا العام امتد من الصف الأول للصف الرابع الابتدائي، والكتاب موجود بجميع سنوات المنهج الجديد، وسيتم تدريسه بداية من السنة الأولى بالحضانة.
هذا أمر طيب للغاية ويجب البناء عليه، لأن الاستهانة بحقوق الآخر عاقبتها أوخم مما يتوقع كثيرون.
إن فرض هذه المادة يعد القطرة التي يبدأ بها ومنا الغيث، ونحن ننتظر المزيد من الخطوات الجادة المدروسة التي تجنب مجتمعنا مرضًا مزعجًا اسمه عدم احترام حقوق الآخر.