الرفقاء جائرون.. ما يجمعه الوطن تفرقه النساء
السبت، 16 أكتوبر 2021 09:00 ممصطفى الجمل
مصطفى النحاس باشا ومكرم عبيد نموذجاً للصداقة التي حولتها "كيد النسا" إلى عداوة تاريخية
زينب هانم الوكيل وفؤاد باشا سراج الدين كتبا نهاية قصة كفاح وطني طويلة.. ومات الرفقيان دون أن ينعي أحدهما الآخر
زينب هانم الوكيل وفؤاد باشا سراج الدين كتبا نهاية قصة كفاح وطني طويلة.. ومات الرفقيان دون أن ينعي أحدهما الآخر
كان مصطفى النحاس باشا ومكرم عبيد نموذجاً للصاحب الساحب في حب الوطن، والدفاع عنه، وتوحيد صفوف الأمة من أجل هدف نبيل، النموذج الذي كسر القاعدة السياسية الثابتة والمستقرة التي تقول أنه لا صداقة في السياسة.
25 عاماً قضاها الرفقيان جنباً إلى جنب، وكتفاً إلى كتف، حتى لعبت السياسة والنساء والوشاة لعبتهن وقلبن الأمور بين الرفيقين، وتحولت الصداقة لعداوة شديدة، وتراشقا لا بالألفاظ ولا الأيدي بل بالكتب.
وكانت علاقة مكرم عبيد ومصطفى باشا النحاس، تجسيد واضح لمعنى وحدة الأمة، فقبل مكرم عبيد كان المسيحيون في مصر في عزلة تامة، وهذا كان لا يروق لمصطفى باشا النحاس، الذي كان معروف عنه التدين، ولكن التدين البعيد كل البعد عن التداخل مع العمل السياسي، فكان تدينا فطريا متسقا مع إيمان عميق، وليس أدل علي ذلك من رفضه وتصديه لاستخدام الدين في أعمال السياسة، وطرده لمؤسس جماعة الإخوان، حسن البنا من مكتبه بعدما توسط له فؤاد باشا سراج الدين، وألح على النحاس لمقابلته، فوافق النحاس وعندما وصل البنا سأله عن برنامج الجماعة السياسي، فلم يتمهل مرشد الجماعة في الإجابة وقال بـ«الحكم بشرع الله»، وهنا استشاط النحاس غضباً وثار طارداً ضيفه بجملة واحدة: "مال السياسة بالدين.. الله بريء مما تنطقون".
ومن علامات تدين مصطفى باشا النحاس وحبه الشديد لمكرم عبيد، أنه علمه قراءة القرآن، مقابل أن الثاني كان يغني له في المنفى أغاني محمد عبد الوهاب، وكان مشهود لمكرم باشا عبيد بعذوبة الصوت.
وكان لمصطفى باشا النحاس رأي واضح وقاطع وغريب في مسألة الدين وعلاقته بالسياسة، فكان الرجل مع إبعاد السياسة عن الدين لا إبعاد الدين عن السياسة.
قوة العلاقة بين الزعيمين الوفدين، قال عنها مكرم عبيد نفسه في الكتاب الذي انتقد فيه سياسات النحاس باشا: «وقد أعيتهم الحيلة فى تصوير الخلاف للناس على النحو الذى ترتضيه لهم المصلحة أو الذله، أو فى القليل يشفى الغلة، راحو يتلمسون له علة خلا ما يعرفون عن العلة!، فهل يصورون الخلاف على أن مصدره عداء شخصى بين النحاس ومكرم؟ كلا، فمن يصدق مثل هذا العداء المفاجئ من غير ما سبب جدى يدعو إلى مجرد الجفاء، فما بالك بالعداء بين شخصين صمدت صداقتهما لمختلف التجارب وقاومت كل أسباب العداء طوال بضع وعشرين من السنين، حتى بلغت مبلغ الإخاء".
مكرم عبيد حدد فترة صداقته بمصطفى النحاس باشا ببضع وعشرين سنة، أي ما يعادل منتصف عمرهم، موضحاً أن هذه الصداقة قاومت كل أسباب العداء، ويضاف إلى ذلك سنوات النفي الطويلة، ويقال في الأثر إن السفر يكشف المعادن، فما بالك بسفر ونفي اضطراري لسنوات طويلة خارج البلاد، كان ذلك الأمر كفيلاً بأن يكشف للرجلين معدن رفيقه، وقد كان وتأكدت المحبة الخالصة لوجه الوطن، وكان يظنان أنهم بعد كل تلك السنوات لن يفترقا، ولكن كان لكيد النساء رأي آخر.
انقسام البيت الوفدى بوفاة سعد زغلول
بعد وفاة سعد زغلول، الحاضن الأكبر لصداقة مصطفى باشا النحاس ومكرم عبيد، انقسم البيت الوفدي لفريقين، فريق يطالب ببهي الدين بركات رئيسا للحزب، وفريق آخر يطالب بصفية زغلول زعيمة للوفد، وكان فريق آخر يرى مصطفى باشا النحاس ملائم لمنصب رئاسة الحزب، على أن يحكموا هم من خلف ستار، ويصبح مصطفى باشا صورة لا أكثر ولا أقل، لكن مكرم عبيد القادم من الجنوب، حشد له خط الصعيد كله وكذلك المسيحيون، واستطاع مصطفى باشا النحاس انتزاع رئاسة الوفد والتغريد بها منفرداً بكافة الصلاحيات، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لكافة الوفدين الغاضبين من هذه الصداقة، فأعدوا العدة لفك هذا التحالف الثنائي الذي قضى على مصالحهم.
وأمام هذا المعروف الذي قدمه مكرم عبيد لمصطفى باشا النحاس، قدم النحاس معروفاً مماثلاً عندما دعمه لتولي منصب نقيب المحاميين، وتعيينه وزيرا في الحكومات التي شكلها مصطفى النحاس باشا، والأقوى من ذلك كله أنهم ضموا مكتبيهما للمحاماة، وتعاملا على أنه مكتب واحد، وكأنهم يريدون أن يتقاسما الرزق والنضال معاً.
استمرت الحياة سعيدة بهذا الشكل، حتى أحضر مكرم عبيد بنفسه العفريت وعجز عن صرفه، وهي زينب هانم الوكيل، الشابة الجميلة بنت البيت الوفدي، التي رشحها مكرم لصديقه مصطفى بعد أن تقدم به السن ونسي الزواج.
المضحك في الأمر أن مصطفى باشا النحاس رفض في البداية الزيجة بحجة أن والدها انشق عن الوفد، وهذا سيسبب له مشاكل في الحزب والأمة، بل وألقى صورتها التي عرضها عليه مكرم أرضاً وداس عليها، عندما عرف بوالدها، لكن مكرم كان مصراً إصراراً شديداً، حتى وافق النحاس باشا، ولم يكن معه ثمن الشبكة ولا المهر الذي طلبه والد العروس وقتها وكان مقداره 1000 جنيه، وتم تخفيضه لـ 600 جنيه بعد تدخل مكرم عبيد، واتجه مصطفى النحاس لبنك مصر طالباً قرضاً ولم يكن يملك أي ضمانات للقرض، وتدخل طلعت حرب وأقرضه 1000 جنيه بدون ضمانات، دفع منهم 600 مهراً و200 جنيه للشبكة، واشترى ملابس جديدة بـ100 جنيه، واحتفظ في جيبه بـ50 جنيه، تبقت من المبلغ بعدما اشترى ملابس جديدة لأبناء شقيقته أيضاً.
وفي واقعة غريبة بعد 15 يوم من الزواج، قرر مصطفى باشا النحاس تطليق زينب هانم الوكيل، بسبب طقم من الأوبيسون، فكان الاتفاق أن تجلب العروس طقم ونصف منه، لكنها جلبت نصف طقم فقط، وعندما عرض الأمر على صفية زغلول صاحت وصرخت: «حد يطلق مراته عشان طقم اوبيسون»، وبعد مداولات عديدة قرر عدد من الوفدين أن يشتروا الطقم، وهنا تراجع مصطفى باشا النحاس عن قرار الطلاق.
القريبون من مصطفى باشا النحاس في هذه الفترة، كانوا يرددون سراً بينهم أن الرجل يحتاج لمن يسيطر عليه، وكان مكرم عبيد يلعب هذا الدور بنجاح، حتى أتت الشابة الجميلة اليافعة واستفزها أن أحداً غيرها يسيطر على زوجها، فبدأت تنسج الخطط لتفك هذه العلاقة وتصبح هي الحاكمة بأمرها في حياة زعيم الأمة، وقد كان.
وصل الكره بين زينب الوكيل ومكرم عبيد، لدرجة أن مصطفى باشا النحاس، دخل المستشفى ومنعته الوكيل من زيارة رفيق دربه، بل وهمست بحديث طائفي على مكرم عبيد، وبعد خروج مصطفى النحاس من المستشفى التقى صدفة بمكرم ودار بينهما عتاب شديد، واكتشف النحاس أن مكرم مظلوم، ولكن زينب كانت بالمرصاد لتصد هذا الدفاع بهجوم ضاري، وساعدها في ذلك أيضاً الوشاة الذين كانت تزعجهم هذه العلاقة الوطيدة.
عام 1942، تلقى مصطفى النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، ورئيس الحكومة، خطابا من مكرم عبيد باشا و20 نائبا وفديا، يطالبون فيه بعقد «الهيئة الوفدية» للنظر فى «تحديد مركز مكرم فى الوفد ومنصب سكرتير الوفد، ومراقبة دار مكرم والحصار المضروب حولها، والاستثناءات التى لا تزال الوزارة سائرة فيها، وبحث الموقف الحربى وغيره من المسائل.
رفض «النحاس» عقد «الهيئة الوفدية» فى البداية، وأيده «فؤاد سراج الدين»، لكنه عدل عن هذا، وأرسل محمد صلاح الدين ليطلب من موقعى الخطاب مقابلته، ليعرف منهم أسباب عقد الهيئة، ثم يجيب عن تساؤلاتهم، وكانت إجابات «النحاس» حاسمة من ناحية إصراره على أن مكرم لم يعد سكرتيرا للوفد، وكذلك رفضه لطلب عقد الهيئة الوفدية، فاندفع مكرم إلى أن يطلق لسانه فى كل مكان وأصدر الكتاب الأسود.
كان «الكتاب الأسود» عبارة عن عريضة إلى الملك، واحتوى على عدة فصول عن أنواع مختلفة من الفساد والمحسوبية التى وقعت فى ذلك الوقت، وصدر فى حوالى 500 صفحة، وقال عنه مصطفى النحاس: «الذى يقرأ الكتاب يخرج منه بأنى أسوأ رجل أخرجته مصر وتولى حكم مصر»، واستعرض بعض ما جاء في الكتاب من نهم بقوله: «أننى أتيت بوزير من أصدقائى يحابى التجار الوفديين، ويحارب غيرهم، وأن شؤون التموين أصبحت على أسوأ ما يكون، وأننى سافرت إلى برلين وأنا رئيس الوزارة عام 1937، واشتريت لزوجتى فروا ثمنه أكثر من ألف جنيه، وأن سفير مصر فى ألمانيا حسن نشأت استعمل نفوذه، وتوسط لدى المحل الذى باع الفرو حتى أخذه بخمسين جنيها، وأن الهيئة الوفدية كانت قد قررت الاكتتاب وشراء المنزل الذى أقيم فيه بمصر الجديدة، وقدمته هدية لى، فبعته وأخذت ثمنه، وأنى نهبت أموال وقف البدراوى وعبدالعال، وملأت الحكومة بأصهارى وأنصارى وأغدقت عليهم الأموال بغير حساب».
وكشف مكرم عبيد في هذه الجلسة أن وزارة النحاس طلبت استثناءات وترقيات لموظفين وفديين انفصلوا فى عهد الوزارات غير الوفدية، ورفض مكرم وزير المالية، فراجعه النحاس، فأحال مكرم المسألة إلى اللجنة المالية، وبوصفه وزيرا للمالية كان هو رئيس اللجنة، ومن الطبيعى أن ترفض هذه الاستثناءات، ورفعت مذكرة بقرارها إلى مجلس الوزراء، وأرغم «عبيد» جريدة «المصرى» على نشرها، فأثارت النحاس وزادت فى حنقه على مكرم لمعارضته طلبات له ثم التشهير به.
الرقابة الصحفية وقتها منعت الصحف من ذكر أى شىء عن الكتاب الأسود لمكرم عبيد، وكان الكتاب يوزع سراً إلا أنه حقق انتشارا كبيراً، وأعضاء كل الأحزاب كانوا يحصلون على نسخ منه بأى وسيلة ممكنة، ووصلت نسخ منه إلى السفارات الأجنبية خاصة البريطانية والأمريكية، فوجد مكرم أن الوضع يتطلب أن يتقدم إلى البرلمان باستجواب مفصل، واستعدت الحكومة ونوابها، لا لمناقشة الاستجواب فحسب، بل اتخاذ الإجراء الأخير بالنسبة لمكرم بعد أن فصل من الوزارة وسكرتارية الوفد، وعضوية الحزب.
كانت الأغلبية فى البرلمان وفدية، ووقف مكرم يشرح استجوابه، فبدأ النواب بمقاطعته والتشويش عليه، فمنعهم رئيس المجلس وقال لهم: يجب أن يشرح استجوابه ويقول ما يريد، وأخذ يعيد التهم ويردد ما جاء فى كتابه الأسود، وقدم النحاس ردوده على الوقائع التى جاءت فى الكتاب، وختم كلامه بكلمة أخيرة قال فيها: «يحكى أنه كان فى مصر شخص يسمى مكرم عبيد بلغ من الشهرة أقصاها ومن المنزلة منتهاها، قربه رئيسه وزعيمه حتى إذا بلغ القمة وظن أن لا أحد بعده، أخذه الغرور وزين له الشيطان الغرور، فسقط من حالق محطم العقل مزعزع الفكر مضطرب أوضاع الحياة، كان فى مصر شخص يسمى بهذا الاسم، فانمحى من الوجود السياسى ذلك الاسم.. رحمه الله".
انسحب «عبيد» من تلك الجلسة وتبعه أعضاء المعارضة باستثناء أعضاء الحزب الوطنى، واتخذ المجلس قرارا بأغلبية الأصوات فى نهاية الجلسة بشجب عبيد وكتابه، وتجديد الثقة فى النحاس ومجلس وزرائه.
وجاء في نص قرار مجلس النواب: «يستنكر المجلس استنكارا شديدا المسلك الشائن الذى سلكه مكرم عبيد باشا سواء أكان ذلك فى طريقة تسويده كتابه، وتلفيق ما فيه، أم فى طريقة نشره بدل تقديم استجواب مهذب إلى البرلمان الذى هو الجهة المختصة مادام الأمر بين نائب والوزارة، ومادام النظام البرلمانى قائما فى البلاد، ومادامت المسؤولية الوزارية الصحيحة قائمة على أساس من الدستور، ويعتبر المجلس أن مكرم عبيد باشا أسوأ مثال للنائب منذ قامت فى البلاد الحياة النيابية سنة 1924، ذلك لأن الواجب الأول على كل نائب ألا يتحرك فى الشؤون العامة إلا والصدق المطلق رائده، وخدمة المصلحة العامة وحدها قائده، فلا يستسلم للأحقاد تغله، ولا لشهوة الانتقام تسيره».
بعدها اجتمعت الهيئة الوفدية وقررت فصل مكرم عبيد غيابياً من الوفد ثم فصله من مجلس النواب ثم اعتقاله، ومات الرفيقان دون أن يجمعهما عتاب جديد، وأن يتدخل عاقل ليعيد المياه لمجراها، فافترقا دون أن يسير أي منهما في جنازة الآخر أو ينعيه بأي طريقة.