فلاح تزيّنت له الوجوه.. ولم يُصدّق إلا الطين
السبت، 11 سبتمبر 2021 07:38 م
زيارة منزلية خاطفة، كانت مُفتتح علاقتنا المباشرة. وقتها كان في نقاهة تلت جراحة كبدية. بدا للوهلة الأولى شخصًا عاديًّا، وبدوت رسميًّا مُتحفِّظًا، لكنني اكتشفت لاحقًا أن لديه مشرطًا جراحيًّا - ربما استلَّه خلسةً من غرفة العمليات - يُجيد توظيفه في شقّ الصدور، وصولاً إلى القلب مباشرة.
أحسب أن مقام النعي والتأسِّي آخر ما يليق به، وأنه لو كان مُشاركًا معنا في تلك المساحة المحمولة على جناح المحبة الصافية، وليس الزمالة فقط، لكان استغلّ الأمر في تمرير نكتة جديدة، أو سخرية لاذعة، أو مُناكفة صديق أهوج، أو اختراع معركة والنفخ في نارها، قبل أن يُطوّح اللهب في الهواء ضاحكًا، فيُحلِّق أمام عينيك وردًا وعصافير وحمائم بيضاء!
"يموت الجبناء مرات عديدة قبل أن يأتي أجلهم؛ أما الشجعان فيذوقون الموت مرة واحدة".. ربما لا تنطبق مقولة وليم شكسبير الشهيرة على أحد، قدر انطباقها على أيمن عبد التواب. لم يكن جبانا قطّ، واغترف من الحياة قدر ما يستطيع، حتى أنني أتخيَّل أنه لم يذق الموت، رغم رحيله المُباغت وغيابه المفجع لقلوبنا!
كانت لدى "أيمن" موهبة لا يملكها كثيرون، أن يفكّ شفرات القلوب، ويتسرّب في أروقة الروح؛ حتى يصير أقرب إليك مما تظن. فعلها معي في طرفة عين، وأحسب أنه أحسن فعلها مع كل من صافاهم واختار مودّتهم. وفضلا عن ذلك، كان رزينا كما يليق بإمام وشيخ طريقة، وخفيفا صافيا كأنه درويش يُجرّب الوصل، وواعيا كمن اختبر الحوادث كلها وانتقى حكمته الشخصية، معجونة بخبرات الزمان وخلاصة السابقين.
4 سنوات تقريبا من المعاناة الغشوم، عاش فيها ما لم يذُقه أو يقتدر على احتماله إنسان. وأشهد أنه طوال هذا الاختبار السماوي الصعب، لم يضع أحماله على أكتاف حبيب أو عدو، ولم يبع للناس إلا ما يُحبّون من بضاعة البهجة وفاكهة الأُنس والصفو، وسار على صراط التجربة كما يسير عصفور على سلك كهرباء عارٍ، أو خيط عرق على جبين فلاح؛ تزيّنت له الوجوه والألسنة، ولم يُصدّق إلا الفأس والطين. مات أيمن، هكذا بجُملة مُقتضبة ولغة باردة، لكن مثله لا يعبر هذا العبور السهل، ولعلّه الآن يراقبنا من عليائه ويضحك، لأننا حزانى هنا، ولأنه يبتكر حياته الجديدة هناك، ويصنع الفرح كعادته!