اللهُ في السماءِ.. والأملُ في الأرضِ
الخميس، 15 أبريل 2021 02:05 م
"إذا كانَ في اليوم قنوطٌ، ففي الغدِ رجاءٌ، وإذا لم تكنْ لي الأرضُ فستكونُ ليَ السماءُ، فـلا تحزنْ؛ فالله يُرسلُ الأملَ في أكثر اللحظاتِ يأسًا، والمطرُ الغزيرُ لا يأتي إلا من الغيوم الأشد ظلمة"، كما يقول الصوفي "جلال الدين الرومي". ومن ثمَّ.. يجبُ أنْ يضغط علينا الأملُ، كما يضغطُ الألمُ، بحسبِ الشاعر "مريد البرغوثي".
نعم.. لا يزالُ العالمُ كله يمرُّ حتى الآنَ بظروف صعبة، لم تخطر على قلب بشر، بسبب جائحة "كورونا" وتداعياتها وتوابعها وغيرها من الأزمات والضغوطات المتفاوتة، فسادَ الخوفُ، وعمَّ الهلعُ، وانتشر الفزعُ، بين ضعافِ القلوب، وخِفافِ العقول، واستسلم الناسُ إلا قليلاً وخضعوا وخنعوا.. فهل هذه جادة الصواب؟
بطبيعة الحال ..لا، ففى الشدائد يجبُ أنْ تشتدَّ القلوبُ وتقوى، وتصنعَ من بعضها ومن بينها حائطَ صدٍّ قويًا، أو بنيانًا مرصوصًا؛ لتُجابهَ به العواصفَ والأنواءَ، فتقهرَها وتكسرَ أنفها، وتستأنفَ الحياة من جديدٍ، غيرَ أنَّ الواقع يقولُ: إن قليلًا من أولى العزم من البشر هم مَن يملكون هذه القدرة الاستثنائية، والعزيمة الفولاذية، هؤلاء من يروَن فى نهاية النفق ضوءًا، وفى عُمق الألم أملاً، يحبون الحياة، وينثرون بذورها، ويغرسون أغصانَها، كلما سنحتْ الفرصُ، ولاحَ الوقتُ، هؤلاء مَن يجبُ أن يكونوا نبراسًا لنا وقتَ المِحن، وأئمة فى زمن الصِّعاب.
هذه الصناعة قد لا يُحسنُها ولا يدركُ أهميتَها إلا القليلُ، رغمَ أنها تُشبهُ الهيكلَ الفولاذيَّ الذي يحمي الأممَ والأفرادَ من التهاوى والتهدُّم، لذا كان أعظمُ السياسيين براعةً هو من يبني جسورَ الأمل فوقَ بحور اليأس، ومن يُحوِّلُ ظلماتِ النفوس إلى مشاعلَ تُضيءُ الطرقاتِ للنهوض من الكبوات، ومَن ينسجُ من خيوط اليأس الواهية أطواقًا للنجاة.
ولذلك..تحولتْ صناعةُ الأمل إلى إحدى مهامِّ الدولة والمجتمع القومية والإستراتيجية الكبرى، فالشعوبُ التي تُهدمُ معالم الأمل في نفوسها تتداعى مع أولى ضرباتِ الخارج أو أزماتِ الداخل، لذلك كتبَ الأديبُ "فيكتور هوجو": "أكبرُ القتلة هو قاتلُ الأملِ".
الرؤية القرآنية حاربتْ اليأسَ بكلِّ ما تملكُ من أدواتٍ، فجعلتْ اليأسَ قرينًا للكفر، وخلقتْ الرجاءَ الرحيبَ أمامَ النفوس القانطة، وبشَّرتْ البائسينَ بالفَرَج القريب في الدنيا أو الثوابِ الكبير في الآخرة، ومنحتْ جرعاتِ الصبر لكلِّ مُتألم ومظلوم، وحذرَّت من الاستسلام لليأس.
وفي الأثر: "لولا الأَملُ مَا أرضَعَتْ أُمٌّ وَلَدًا، وَلا غَرسَ غارِسٌ شَجَرًا"، فالأملُ طاقةٌ هادرةٌ، وفقدانه عجزٌ مقيتٌ، وهو ما تنبه إليه أميرُ المؤمنين "عمر بن عبد العزيز" فقال:"لو أنَّ الناس كلما استصعبوا أمرًا تركوه ما قامَ للناس دنيا ولا دينٌ" .
الأملُ حماية للمجتمعات من الانكساراتِ وقتَ الهزائم والبلايا والشدائدِ. يقولُ الأديبُ الفلسطينيُّ "غسان كنفاني" الذي عانى مرارة اللجوء والغربة وقسوة الحياة: "ولكنني كنتُ أعيشُ من أجل غدٍ لا خوفَ فيه..وكنتُ أجوعُ من أجل أن أشبع ذات يوم.. وكنتُ أريدُ أنْ أصلَ إلى هذا الغد..لم يكنْ لحياتي يومَ ذاك أية قيمةٍ سوى ما يُعطيها الأملُ العميقُ الأخضرُ بأنَّ السماءَ لا يمكنُ أن تكونَ قاسية إلى هذهِ الحدود".
و"الأملُ قوة الضعيفِ المُستعصية على المقاومة" كما يقول الشاعر "محمود درويش". وما أروعَ ما كتبَه الأديبُ "أحمد حسن الزيات" عن الأمل، والتعالي فوق الأزمات :"الله في السماءِ، والأملُ في الأرض، وبين روح الله المُؤاسي، ومَددِ الرجاءِ الآسي، تندملُ الجفونُ القريحة، وتلتئمُ القلوبُ الجريحة، وتنتعشُ الجدودُ العاثرة..
الكروانُ يموتُ فرخهُ في المساءِ، وفي الصباحِ يرقصُ ويصدَح، والشاةُ يُذبحُ حَملها في الحظيرة، وفي المروجِ تثغو وتمرح، والقلب يُقطع من القلبِ، والرُّوحُ تُنزعُ من الروحِ، ثم يعيشُ المُحِبُّ بعد حبيبِه، والوالدُ بعدَ ولده، كما يعيشُ النهرُ الناضبُ في ارتقابِ الفيضان، والروضُ الذابلُ في انتظارِ الربيع، لله على الناسِ نعمتانِ لا يطيبُ بدونهما العيش، ولا يبلغ إلا عليهما العُمر: النسيانُ والأمل". ومَنْ لمنائر الأمل يُشيدها؟ فالناشئة تذوقوا طعمَ اليأس في الأرحام وفي حليب الأمهات، وللهِ درُ امرئ أذَّنَ للفجر على أذيال الليل المُنهزم.
كثيرون هُم أولئك الذين يُحسنونَ لعن الظلام، وإدمانَ الحديث عن تفاصيل الواقع المر، لكن قليلاً منهم مَنْ يصنع الأملَ فيضيء في الظلام شمْعة، ويبثُّ روحَ التفاؤل لدى الآخرين، فلا تيأسوا من رَوْحِ الله، فإنه لا يياسُ من رَوح اللهِ إلا القومُ الكافرون، واليأسُ سوءُ ظنٍ بالله، والله عند ظن عبده به، فلا تظنوا بالله إلا خيرًا.