من قناة السويس للموكب الملكى: التاريخ والجغرافيا يقولان كلمتهما.. «مصر هبة العالم»
السبت، 10 أبريل 2021 08:00 ممحمود على
مصر تخطت صعاب السفينة الجانحة وهدأت لتعيد الأمجاد بموكب المومياوات
الدولة المصرية بمكوناتها الحضارية والجغرافية ستظل فريدة ومتميزة.. وتشكلت على أعمدة الحضارة والمكان فهى فرعونية وقبطية ورومانية ويونانية وإسلامية حضارة وأفريقية ومتوسطية وعربية
فى أسبوع واحد.. أبهر المصريون العالم مرتين بإرادتهم وعزيمتهم وبالعلم والقوة الصلبة.. وتحدث الجميع عن سحر المصريين الحقيقى
«وقف الخلق ينظرون جميعا.. كيف أبنى قواعد المجد وحدى.. وبناة الأهرام فى سالف الدهر.. كفونى الكلام عند التحدى».. تلك الأبيات التى صاغها العظيم الراحل حافظ إبراهيم لترددها أجيال تفتخر بمصر الحضارة، وغيرها من الأبيات على مر التاريخ ترسم صورة لما قدمته المحروسة إلى الدنيا فقد جاءت مصر ثم جاء التاريخ، وصولا إلى شرايين الحياة الجغرافية التى تجعل من موقع مصر قلب العالم.
ومن هنا أظهرت الأحداث الأخيرة التى شهدتها مصر مؤخرا، وعلى رأسها حدث نقل المومياوات الملكية الذى أبهر العالم أجمع، فضلا عن نجاح الدولة المصرية عبر رجال هيئة قناة السويس فى جهود تعويم السفينة الجانحة «إيفر جيفن»، كيف تحالف التاريخ والجغرافيا معاً فى آن واحد ليوضحا حقيقة واحدة أن مصر بمكوناتها الحضارية والجغرافية ستظل على مر التاريخ فريدة ومتميزة بمكوناتها الحضارية والجغرافية، فقد تحالف التاريخ مع الجغرافيا من أجلها، وتشكلت مصر بناء على أعمدة الحضارة والمكان فهى فرعونية وقبطية ورومانية ويونانية وإسلامية حضارة، وأفريقية ومتوسطية وعربية جغرافيا.
تعامل الإدارة المصرية مع الأحداث السريعة والمتلاحقة، بداية من أزمة السفينة الجانحة التى عطلت الملاحة فى مجرى قناة السويس أيامًا، وحتى خروج موكب المومياوات الملكية من المتحف المصرى إلى متحف الحضارات، فى احتفالية أبهرت العالم أجمع، كأن القدر الذى أراد أن يثبت للعالم أن هبات مصر للعالم والبشرية لا تنضب ولن تنقطع، فالقناة بما تمثله من أهمية جغرافية محورية كشريان مائى عالمى، وموكب المومياوات المليكة بما يؤكده من تاريخ عتيد ضارب بجذوره فى تاريخ البشرية، كلاهما كان رسالة واضحة المعالم بلا طمس ولا ضبابية على أن مصر «هبة العالم».
بلا أدنى شك أن الموقع الجغرافى هو إحدى أدوات المكانة الاستراتيجية للدول، بل ويعتبر فى العلوم العسكرية أهم أدوات الردع الاستراتيجى، وجاءت أزمة السفينة الجانحة لتؤكد وتشدد وتنشط الأذهان على أهمية استقرار وأمن مصر، لما له من انعكاس مباشر على أمن واستقرار المنطقة بالكامل بل والعالم أجمع.. القناة التى تعتبر أهم ممرات الوقود من الشرق إلى دول الغرب، وكذلك الغذاء وغيره من ضروريات الحياة اليومية وأساسيتها، حينما أغلقت أياما قليلة ارتفعت خلالها أسعار الطاقة 5%، وكأن الأقدار شاءت أن تبرز الأهمية الجغرافية فى ذلك الوقت الحساس الذى تواجه فيه مصر قضايا مصيرية لا تقبل إلا الحل فقط، ولا يمكن أن تقبل به بديلا.. قضايا تمس عصب الأمن القومى المصرى والعربى بل أمن المنطقة بالكامل.
أحيانًا يكون التميز الجغرافى نقمة إذ أنه من أهم أسباب مطامع الدول فى استهداف الدول التى تميزت بهذه الخاصية، وما يزيد من تلك المطامع إن كانت الدولة المستهدفة تمر بحالة ضعف عسكرى واقتصادي، وتفتت وتشتت اجتماعى فتكون لقمة صائغة بين أنياب الأعداء، وهذا ما تعانيه مصر منذ فجر التاريخ، إلا أن ذلك لا ينطبق فى الوقت الراهن على الدولة المصرية التى أثبتت أن هذا الجمع أعطاها تميزا وقوة وسط العالم لا أحد يمكن أن يتجاهله، وهو ما أعاد التذكير به الرئيس عبدالفتاح السيسى فى كلمته عند زيارته مقر هيئة قناة السويس بالإسماعيلية وقال إن: «ما حدث أعاد تذكيرنا بأن قناة السويس ترسخت فى وجدان صناعة التجارة.. هذا مرفق عالمى للتجارة الدولية وترسخ فى أفكار ووجدان الصناعة فى كل العالم».
وأوضح الرئيس السيسى أن 12 إلى 13 % من حجم التجارة العالمية يمر من هناك، مشددا على أن «قناة السويس باقية ومنافسة جدا جدا»، لافتا إلى أنه كان يتابع السفينة الجانحة فى قناة السويس بشكل كامل، قائلا: «كنت متابع الموضوع مع الفريق أسامة ربيع فى توقيتات تستغربوها جدا.. كان فيه تواصل الساعة 4 الصبح.. وكنت مطمئن إن كل الأمور هتعدى على خير».
وأضاف الرئيس السيسى، خلال تفقده مركز التدريب البحرى التابع لهيئة قناة السويس بمحافظة الإسماعيلية: «الأزمة أكدت على حاجة مكنتش أتمنى أنها تحصل.. لكن الأقدار بتعمل أفعالها.. وشاورت وأكدت ونبهت على الدور الكبير والأهمية الكبيرة لواقع بقاله 150 سنة»، متابعا أن الدولة تبذل قصارى جهدها فى أمور أخرى وصفها بـ«الجبارة»، وقال إن الدولة تقوم بربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر، وتابع: «نمضى وفق الأفعال وليس الأقوال».
وقناة السويس تعد أقصر طريق يربط بين شرق العالم وغربه، بسبب موقعها الجغرافى، حيث تصل بين البحر المتوسط عند بورسعيد والبحر الأحمر عند السويس، الأمر الذى يجعل لموقعها طابعا استراتيجياً وأهمية خاصة للعالم ومصر.
وما أظهر الأهمية الاستراتيجية لقناة السويس حول العالم، ليس هذا الحدث فقط، بقدر تأثيره وتداعياته على حركة التجارة العالمية، وأسعار النفط، فأدى تعطل سفينة نقل الحاويات إيفر جيفن الضخمة العالقة فى قناة السويس إلى صعود أسعار النفط العالمية بنسبة 2.45%، فيما أدت إلى تعطل بضائع تقدر قيمتها بنحو 9.6 مليار دولار كل يوم.
وأظهرت هذه الأرقام أهمية قناة السويس لكل الشركات والدول المتعاملة فى قطاعى التصدير والاستيراد ونقل البضائع، حيث يعد هذا الممر الملاحى العالمى من أبرز همزات الوصل بين مراكز الإنتاج والاستهلاك والتوزيع على مستوى العالم، فيؤكد الخبراء أن دولا مثل اليابان والصين وإندونيسيا وماليزيا تأثرت جراء تعطل قناة السويس حيث توجد فى هذه الدول معظم مراكز الإنتاج على مستوى العالم.
فى المقابل أدى تعطل قناة السويس إلى توقف حركة التوزيع فى مناطق عدة بالشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، وهى التى يربطها هذا الممر الملاحى بالدول الإنتاجية سالفة الذكر.
ووفقا لما أكدته قناة السويس، فإن أهمية القناة تتعاظم بقدر تطور و تنامى النقل البحرى و التجارة العالمية، حيث يعد النقل البحرى أرخص وسائل النقل ولذلك يتم نقل ما يزيد على 80% من حجم التجارة العالمية عبر الطرق والقنوات البحرية، فيما تعد قناة السويس كممر ملاحى من أهم هذه الطرق تأثيرا على التجارة العالمية، خاصة أنها توفر بين 8 إلى 11 يوما أمام السفن المارة من الشرق الأقصى إلى أوروبا بالمقارنة لما تستغرقه هذه السفن فى الخطوط الملاحية التقليدية، وذلك وفقا لما أكده الدكتور محيى الدين السايح عميد كلية النقل البحرى بالأكاديمية العربية.
ومن هنا يؤكد السايح أهمية افتتاح قناة السويس الجديدة عام 2015، التى ساهمت فى تقليص فترة عبور السفن عبر القناة نحو 11 ساعة، ما أدى إلى تأثير ذلك بشكل إيجابى على الناقلين كخطوط ملاحية وأصحاب بضائع المارة عبر القناة.
مميزات قناة السويس عددها الموقع الإلكترونى للقناة، ومنها أنها أطول قناة ملاحية فى العالم، وهى الأكثر تهيئة لعمليات التوسيع والتعميق كلما لزم الأمر لمواجهة ما يحدث من تطوير فى أحجام وحمولات السفن، فضلا عن ندرة الحوادث فيها بالمقارنة بالقنوات الأخرى.
قناة السويس تتميز أيضا بتزويدها بنظام إدارة حركة السفن (فى تى إم إس) القائم على استخدام أحدث شبكات الرادار والكمبيوتر، لمراقبة ومتابعة حركة السفن على طول القناة، ما يتيح إمكانية التدخل فى الطوارئ، فضلا عن تميزها باستيعاب عبور السفن بحمولة مخففة، لحاملات النفط الخام الكبيرة جداً، وكل السفن الفارغة مهما كانت حمولتها.
وخلال الخمس السنوات الماضية، منذ بدء عمل القناة الجديدة، ارتفعت إيرادات قناة السويس بنسبة 4.7%، وفقا لإحصائيات سابقة أكدها رئيس الهيئة الفريق أسامة ربيع الذى أشار أن إيرادات القناة بلغت 27.2 مليار دولار مقارنة بـ 25.9 مليار دولار فى الخمس سنوات السابقة.
ووفق الخطة الاستراتيجية التى أشار لها الفريق مهاب مميش رئيس القناة السابق خلال كلمته فى الذكرى الثالثة لافتتاح القناة الجديدة قبل عامين، فإن القناة تستهدف ارتفاع أعداد السفن المارة والعائدات إلى الضعف بحلول العام 2023، وهو ما أكد عليها الفريق أسامة ربيع، الرئيس الحالى للقناة، فى أغسطس الماضى.
وأظهر حجم التناول الواسع للصحف العالمية لتعطل الممر الملاحى لقناة السويس، مدى أهمية هذا الحدث على المستوى العالمية، إذ سلطت وكالات الأنباء والصحف العالمية الضوء على الواقعة خلال الـ6 أيام التى تعطلت فيها القناة، وانتهى الأمر إلى رصد نجاح الجهود المصرية فى تعويم السفينة الجانحة، وإبراز رجال الهيئة لحل الأزمة فى أقل عدد من الأيام، فقالت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، إن تحريك السفينة الجانحة فى قناة السويس، تعد واحدة من أكبر العمليات وأكثرها كثافة فى التاريخ الحديث، مشيرة إلى المهندسين والمشغلين وقادة القاطرات وعمال الإنقاذ الآخرين كانوا يعلمون فى سباق ضد الزمن، من أجل تحريك أهم ممر ملاحى فى العالم موضحة أن استمرار جنوح السفينة كل يوم كان يضع سلاسل الإمداد العالمية فى أزمة كاملة، فيما نقلت سى إن إن ووكالة أسوشيتدبرس ووكالات الأنباء الفرنسية والألمانية والصحف الروسية الحدث وأطلعت قراءها على جميع تفاصيله، وكان الأبرز فى هذا الأمر هو نشر سى إن إن تجربة تفاعلية لاختبار قيادة سفينة وعبور قناة السويس، دون الوقوع فى نفس «خطأ» سفينة «إيفر جيفن».
التاريخ يقول كلمته.. الموكب الملكى يعيد صياغة الواقع
حادث تعطل قناة السويس، وما أثبته من أهمية لجغرافية مصر على المستوى العالمى، أعقبه حدث مهيب أبرز العالم كله، وكشف عن محورية الحضارة المصرية وعراقة تاريخها، عندما نقل 22 مومياء ملكية من المتحف المصرى بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط، فى موكب استقبله فى الختام الرئيس عبدالفتاح السيسى، ما أوضح مدى اهتمام الدولة المصرية بآثارها وحضارتها.
فقد استطاعت مصر إبهار العالم خلال انطلاق موكب المومياوات الملكية التى تابعها جميع الشعوب فى مختلف البلاد، وقدمت واحدًا من أكبر المتاحف العالمية فى العالم، وهو المتحف القومى للحضارة المصرية، الذى افتتحه الرئيس السيسى.
مساء السبت الماضى، حبس العالم كله أنفاسه، ولمعت الأعين.. إنه يوم مشهود من أيام مصر العظيمة، مصر القادرة، مصر المنيرة، مصر القوية الجميلة الصابرة، مصر حاضرة العالم، صانعة الحياة، مصر الضاربة فى عمق التاريخ بسجل حافل من الإنجازات الإنسانية، هنا علمنا العالم الزراعة، هنا علمنا العالم العلم، هنا قسمنا الزمن، وهنا أحيينا الموت، هنا عشنا نحمل بين أضلعنا الحياة، فى عروقنا يجرى النيل حرا حالما، فى عيوننا يشرق رع بالنور والخير والدفء، فى قلوبنا نقيم العدل ونرعاه، هنا نفتخر ونقول إننا أحفاد المصريين القدماء، نحن الذين حفرنا الجبال لنخلد أسماءنا فى التاريخ، نحن الذين صنعنا وعى العالم وصغناه، وهنا علمت مصر آباء العالم من فلاسفة وحكماء وعلماء، وهنا عرفنا الإله الواحد الصمد الماجد.
مصر تحدثت عن نفسها، تحدثت عن حلمها، تحدثت عن حاضرها بكل فخر، مثلما كانت تتحدث عن ماضيها بالفخر ذاته، مصر التى فى خاطرى وفى دمى أصبحت اليوم أمام عينى، مسكونة بالسحر، يرعاها التناغم، مشهود لها بالدقة والإتقان، كل شىء فى مكانه، كل شىء جميل، كل شىء يكاد من فرط الجمال يذوب، كل شىء يكاد يهتف «تحيا مصر».
نقلت مصر مومياوات 22 ملكا من ملوكها الأوائل، ولأن مصر الآن تعرف قدرها وتعرف موقعها لم يكن ليعبر هذا الحدث الفريد كأى حدث، لكننا استثمرنا هذا اليوم لنقول للعالم رسالة محددة، رسالة تخيف الأعداء، وتفرح الأحباب، رسالة تؤكد أن مصر عادت وبقوة، مصر آتية لا ريب، مصر تنهض لتصل الماضى بالحاضر، وتصل الأمجاد القديمة بالإنجازات الحديث، مصر التى قالت فأطاعها الحجر والبشر، مصر التى حضرت فغاب الشر وتوارى الأشرار، مصر التى أشرقت فتبدد الظلام، مصر التى إن اهتزت لانهار العالم كله.
الرسالة الأكمل والأجمل تجلت بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى أكد بتشريفه هذا الحفل المهيب أن مصر الآن بها قيادة مبصرة، قيادة تعرف مكانها جيدا، قيادة تبنى اليوم ما تاريخ الغد، قيادة تحفر اسمها فى التاريخ بصبر وثبات.
العالم كله يتحدث عن سحر الفراعنة القدماء، فصمت العالم وتحدث عن سحر المصريين الحقيقى، السحر الذى لا يعتمد على الخدع ولا الشعوذة، لكنه يعتمد على الإتقان والجودة، على التناغم المهول، والدقة المتناهية، على الانضباط الصارم والانسيابية الناعمة، فما رأيناه عبر ساعتين كاملتين فى بث احتفالية نقل مومياوات ملوك مصر العظماء هو سحر حقيقى، سحر ممزوج بالمجد والفخر، سحر مغلف بالأبهة والإبهار، هذه بلدى التى أحب، هذه بلدى التى أفخر بها، هذه بلدى التى حلمت بها، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
ومن خلال الصوت المصرى الأصيل قدم لنا الفنان الكبير محمد منير أغنية «أنا مصر» كلمات أمير طعيمة، التى بعثت روح الوطنية فى قلوب المصريين بصوت دافئ يتمتع بنقوش فرعونية أصيلة، لتتسلم بعد ذلك الفنانة القديرة يسرا لتستعرض عظمة حضارتنا بزى فرعونى يؤكد على الفخر بمصريتها.
وأبهر هذا الحدث الفريد العالم أجمع، حيث نقله الكثير من وسائل الإعلام والوكالات العالمية، وأجمع على مشاهدته مليارات المشاهدين حول العالم، ليسدل الستار عن الرحلة الذهبية التى انتظرها العالم منذ 18 شهرا فور الإعلان عن خطة نقلها الذى كان مستقرها لنحو 119 عاما المتحف المصرى بالتحرير.
وعلق الرئيس السيسى على هذا الحدث الفريد، معبرا عن فخره واعتزازه له وقال: «بكل الفخر والاعتزاز أتطلع لاستقبال ملوك وملكات مصر بعد رحلتهم من المتحف المصرى بالتحرير إلى المتحف القومى للحضارة المصرية.. أن هذا المشهد المهيب لدليل جديد على عظمة هذا الشعب الحارس على هذه الحضارة الفريدة الممتدة فى أعماق التاريخ.. إننى أدعو كل المصريات والمصريين والعالم أجمع لمتابعة هذا الحدث الفريد، مستلهمين روح الأجداد العظام، الذين صانوا الوطن وصنعوا حضارة تفخر بها كل البشرية، لنكمل طريقنا الذى بدأناه.. طريق البناء والإنسانية».
الموكب الذى سبقته احتفالية فنية وثقافية حضارية، نقل 18مومياء لملوك و4 مومياوات لملكات، ترجع إلى عصور الأسر ١٧، ١٨، ١٩، ٢٠، من بينهم مومياء الملك رمسيس الثانى، والملك سقنن رع، والملك تحتمس الثالث، والملك سيتى الأول، والملكة حتشبسوت، والملكة ميرت آمون زوجة الملك أمنحتب الأول، والملكة أحمس نفرتارى.
هذا الحدث المهيب شارك فيه كل جهات الدولة متكاتفة طيلة عام ونصف منذ إعلان خطته، لتقديمه بهذا الشكل العالمى والتاريخى أمام العالم بصورة حضارية تليق بمكانة مصر وبعظمة أجدادها وعراقة حضارتها، كما يأتى مشاركة الرئيس السيسى فى هذا الحدث ليؤكد أن الدولة المصرية تضع حضارتها وآثارها على رأس أولوياتها، وتفخر بأجدادها الذين سجلوا التاريخ.
كما أبزرت الاحتفالات الفنية والثقافية قبل بدء نقل المومياء اهتمام مصر واعتزازها بآثارها وتاريخها العريق، وهو ما يعيد تذكيرنا بالهدف الأساسى لإقامة هذا الحدث التاريخى، ومنه يظهر احترام القيادة والدولة المصرية بصفة عامة لتاريخ الأجداد الذين انطلق تاريخ البشرية من مشروعهم حيث تعتبر الحضارة المصرية من أقدم الحضارات فى العالم.
ومنذ الإعلان عن خطة نقل المومياوات الملكية، وتولت وزارة السياحة والآثار الاهتمام بهذا الحدث بعناية بالغة باختيار كل التفصيل، بدءا من اختيار اسم الحدث باللغتين العربية والإنجليزية، ومن ثم الشعار المختار، والفرق الموسيقية الرسمية للدولة والتشريفة الرسمية واختيار العربات الخاصة بنقل المومياوات بالإضافة إلى تحديد الأغانى التى أعدت خصيصا للفاعلية.
وشارك فى تنفيذ هذا الحدث التاريخى من بدايته إلى ختامه مصريون ليتم إخراجه بهذا الشكل المبهر، حيث شارك نحو ٣٥٠ طالبا وطالبة وأطفال وأشهر الفنانين المصريين فى الحدث باعتبارهم الأكثر ارتباطاً وشعورا به لإظهار الحب والاحترام للأجداد، فيما تعد مشاركة طلبة كليات الفنون الجميلة والتطبيقية والتربية الفنية فى هذا الحدث، والدور الذى قاموا به بتجميل الحوائط الخرسانية الموجودة فى أماكن من أجمل المظاهر التى شهدها الحدث، لما يمثله من توثيق لتراث الحضارة المصرية القديمة بطريقة فنية بكل ما تحمله من أصول فنية ومعان رمزية وتعبيرية.
اختيار الشعار الخاص بالحدث، وألوانه المزدوجة ما بين اللون الأزرق الداكن والذهبى، جاء مستوحى من العقيدة المصرية القديمة، ويعكس بصورة دقيقة دلالات وسمات مصر القوية طيلة تاريخها، فيما جاءت عملية نقل المومياوات وفق إجراءات محددة تراعى معايير السلامة والأمان والسلامة المتبعة عالميا فى نقل القطع الأثرية، وهو ما ظهر خلال الموكب بوضعها داخل وحدات تعقيم مجهزة بأحدث الأجهزة العلمية وتحميلها على عربات خصصت لتلك العملية بكفاءة.
ولم يكن هذا الحدث أقل أهمية من واقعة تعطل السفينة الجانحة بقناة السويس، بالنسبة للصحف العالمية ووكالات الأنباء، إذ لوحظ الاهتمام الواسع من قبل الإعلام العالمى بنقل تفاصيل موكب المومياوات الملكية، حيث وصفت شبكة سى إن إن بأنه بدا كحبكة سينمائية وجزء من احتفال فخم بتاريخ مصر ومشروع لنقل بعض أعظم كنوزها إلى منشأة جديدة ذات تقية عالية، وكانت مومياوات رمسيس الثانى و21 من ملوك وملكات مصر جزء من موكب المومياوات الملكى.
وقالت سى إن إن فى تقريرها إن هذا الحدث الذى طال انتظاره ونظمته وزارة السياحة والآثار المصرية، كان مبهرا بشكل يليق بالدولة المصرية، ونقلت عن رئيس قسم الحفظ فى معمل حفظ المومياوات بالمتحف القومى للحضارة المصرية مصطفى إسماعيل، دقة عملية نقل المومياوات وفق إجراءات معايير السلامة والأمان قائلا: إن عملية الحفظ تشمل وضع كل مومياء فى كبسولة نيتروجين خالية من الأكسجين، والتى يمكن أن تحافظ عليها دون ضرر من آثار الرطوبة، لاسيما وأننا نتحدث عن بكتيريا وفطريات وحشرات. والكبسولة محاطة بمادة ناعمة توزع الضغط وتخفض الاهتزاز خلال عملية النقل، وصحب كل مومياء أى متعلقات تخصها بما فى ذلك التوابيت».
صحيفة واشنطن بوست هى الأخرى أشارت لأهمية الحدث العالمى، وقالت إنه صمم بحرفية تسلط الضوء على مكانة مصر فى التاريخ، مشيرة الحفل سعى إلى إعادة خلق الوجود القديم للعائلة المالكة، حيث كان فى الموكب عربات تجرها الخيول ومئات من فنانى الأداء يرتدون الملابس التقليدية التى كان يرتديها المصريون القدماء.
حديث الدكتور خالد العنانى وزير السياحة والآثار خلال كلمته فى بداية موكب الموميات الملكية، أبرز العديد من الأهداف التى أرادت الدولة أن تحققها من هذا الحدث التاريخى وكان على رأسها إظهار القاهرة الجميلة التى ازدادت جمالاً وبهاء لتطل على العالم بهذا المظهر المبهر.
وأشار العنانى لجهود الدولة متمثلة فى وزارة السياحة لإخراج هذا المشهد المهيب، مؤكدا أن الفيلم التسجيلى للحدث لم يعرض إلا جزءًا بسيطا من إنجازات الدولة خلال السنوات القليلة الماضية فى مجال الآثار والمتاحف، التى استطاعت مصر خلالها إنشاء وتطوير أكثر من 20 متحفا، وترميم وتطوير أكثر من ١٠٠ مبنى وموقع أثرى من مختلف العصور بكل أنحاء الجمهورية، وتقدم العمل بشكل ملحوظ بمشروع المتحف المصرب الكبير الذى أوشك على الانتهاء، وزاد عدد البعثات الأثرية المصرية إلى أكثر من ٨٠ بعثة استطاعت تحقيق اكتشافات أثرية هامة.
وأضاف العنانى: «وراء كل هذا العمل جنود مجهولون»، مشيرا إلى ما وصفهم بالجيل الاستثنائى من الآثاريين والمرممين والخبراء المصريين».
ولم يكن هذا الحدث إلا دليل على اتخاذ الدولة خطوات جادة نحو التعريف بالتاريخ المصرى وحضارته القديمة، إذ قال العنانى «إن الحدث سيكون انطلاقة نحو عدد من الافتتاحات المهمة الخاصة بالثقافة والتاريخ المصرى»، مشيرا إلى انتهاء الوزاة من تجهيز متحف عواصم مصر (بنسبة ١٠٠٪)، والعمل فى المراحل النهائية من مشروع ترميم قصر محمد على بشبرا، وطريق الكباش بالأقصر، والمتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية».
إلى جانب ذلك أضاف العنانى أنه سيتم الإعداد لاحتفالية كبرى من المقرر إقامتها بمناسبة افتتاح المتحف المصرى الكبير، مشيرا إلى مشاركة شخصيات مصرية فنية وثقافية ورياضية بارزة، وشخصيات ومشاهير عالميين، مؤكدا على تبنى الرئيس السيسى لفكرة تنظيم موكب المومياوات، عندما عرضت عليه عام ٢٠١٩، والتوجيه بأهمية إظهار هذا الأمر بشكل يليق بعظمة الأجداد، وتوجيه الحكومة لتطوير القاهرة وكل نقاط خط سير الموكب.
فى المجمل عكست الاحتفالية العظيمة جانبًا مهمًا من عظمة الحضارة المصرية القديمة متمثلاً فى فكرة القيم المصرية القديمة.
والفكرة قادمة من معنى «فجر الضمير» الذى يعيدنا إلى الكتاب الشهير لجيمس هنرى برستد، والذى ترجمه سليم حسن، فقد كان برستد مشغولا بمصر وحضارتها، لذا قال فى مقدمة كتابه: «فى حياة الصياد فى عصر ما قبل التاريخ، الذى كان يكافح بين ذوات الثدى المتوحشة الهائلة التى كانت تحيط به، بدأ يسمع همسا من عالم جديد كان ينبثق فجره فى باطنه، وكان هذا الهمس بمثابة بوق جديد يختلف عن همس ألم الجوع أو الخوف الذى يشعر به الإنسان للمحافظة على كيانه، وإذ لم يكن يقتصر هذا البوق على تحريك إحساس واحد فحسب تاركًا كل المشاعر الأخرى هادئة مطمئنة، بل حرك لأول مرة كل العوامل النفسية معا، فما هو المنبع الذى خرجت منه كل هذه الأصوات الباطنة، وكيف اكتسب تلك القوة الآمرة فى حياة الإنسان الفردية، وكيف أنها نهضت حتى أصبحت قوة راسخة مسيطرة فى المجتمع الإنسانى؟ لاشك أن ذلك كان تقدما عظيما وتغييرا أساسيا.
ونحن نكرر هنا أن كل هذا التقدم كان رحلة اجتماعية تقع مراحلها الأخيرة فى متناول مدى ملاحظاتنا، لأنها حدثت فى العصر التاريخى أى فى العصر الذى ظهرت فيه الوثائق المدونة، وقد ساعدنا حل رموز اللغات الشرقية القديمة على قراءة ما وصل إلينا من السجلات المكتوبة فكشفت لنا عن فجر الضمير وعن الأطوار التى صار بها قوة اجتماعية وتمخضت لنا عن عصر الأخلاق، ذلك العصر الذى مازلنا نقف عند أول مرفأة فيه».
وأثبت برستد فى كتابه أن ضمير الإنسانية بدأ فى التشكل فى مصر قبل أى بلد بالعالم، وذلك منذ نحو 5000 عام.
أما مترجم الكتاب الدكتور الكبير سليم حسن، والذى أصدر الترجمة فى سنة 1956، فقال فى تقديمه عن فجر الضمير، إنه «يدلل على أن مصر أصل حضارة العالم ومهدها الأول، بل فى مصر شعر الإنسان لأول مرة بنداء الضمير، فنشأ الضمير الإنسانى بمصر وترعرع، وبها تكونت الأخلاق النفسية، وأخذ الأستاذ بريستد يعالج تطور هذا الموضوع منذ أقدم العهود الإنسانية إلى أن انطفأ قبس الحضارة فى مصر حوالى عام 525 قبل الميلاد».
ويرى برستد أن الإنسان ظل يصارع أخاه الإنسان، وكل القوى المادية – وحوش/ رياح/ أعاصير/ فيضانات إلى آخره – طوال مليون سنة طور خلالها أدواته، ومن ضمنها السلاح.. هذا السلاح كما يقول المؤلف بدأ «بالبلطة» وانتهى بالقنابل الذرية والقذائف المدمرة، فإذا كان الإنسان من مليون سنة يستطيع تحطيم رأس إنسان آخر بهذه (البلطة)، فإنه الآن يقدر أن يبيد الآلاف من البشر بقنبلة واحدة فى ثوان معدودات! أما الأخلاق ورقيها، فقد بدأت تتشكل منذ 5000 سنة فقط على ضفاف نهر النيل فى مصر.
فى الكتاب ينتصر برستد إلى أن ما حفظ حضارة المصريين القدماء هى الأخلاق، ويؤكد أن المصريين القدماء كانوا يعرفون ذلك، لذا سعوا إلى وضع مجموعة من القيم والمبادئ التى تحكم إطار حياتهم، تلك القيم التى سبقت «الوصايا العشر» بنحو ألف عام، وقد تجلى حرص المصرى القديم على إبراز أهمية القيم فى المظاهر الحياتية، فكان أهم ما فى وصية الأب قبل وفاته الجانب الأخلاقى، حيث نجد الكثير من الحكماء والفراعنة يوصون أبناءهم بالعدل والتقوى. كذلك كانوا يحرصون على توضيح خلود تلك القيم فى عالم الموت. لذا نحتوا على جدران مقابرهم رمز إلهة العدل «ماعت» ليتذكروا أن العمل باقٍ معهم.
ويرصد «برستد» فى كتابه كيف استطاع المصريون القدماء تشييد منظومة أخلاقية شاملة تتكئ على فكرة العدالة، هذه المنظومة تعلن بوضوح مخاصمتها للظلم، وانحيازها المطلق للاستقامة، فكما قال فرعون إهناسيا لابنه الأمير»ميركارع»: «إن فضيلة الرجل المستقيم أحب عند الله من ثور الرجل الظالم، أى من قربان الرجل الظالم».
المحصلة النهائية أننا فى أقل من أسبوع وقفت مصر لتبهر وتدهش العالم مرتين.. الأولى بإرادتها وعزيمة أبناءها وبالعلم وبقوتها الصلبة عندما حررت السفينة العالقة بقناة السويس فى 5 أيام.. والثانية بالروعة والفن والعظمة والحضارة والابداع المصرى الأصيل.. إنها مصر عندما تريد وتقرر.. فإنها تستطيع وتدهش وتبهر وتحقق الإنجاز والاعجاز.. فى الماضى والحاضر والمستقبل. سيمفونية عمل وجهد كبير وتفان وإخلاص وحب تختزل كل هذا العمل الرائع والحفل الأسطورى الذى وقفت به مصر تتحدث عن نفسها للعالم بتاريخها المتصل من ميراث حضارة الأجداد إلى إنجاز الأبناء.