أيمن عبد التواب يكتب: «هدم المساجد».. حلال في تركيا حرام بمصر!
السبت، 12 سبتمبر 2020 10:00 م
عندما هاجر النبي- صلى الله عليه وسلم- من مكة المكرمة إلى يثرب- «المدينة المنورة»- كان همّه الأول أن يوطّد دعائم الدولة الإسلامية الناشئة، ويثبت أركانها، فشهدت الأيّام الأولى من مَقْدِمه القيام بخطوات مباركة، من شأنها أن تؤمّن مستقبل الدولة الوليدة، وتحمي أرضها، وتنظّم العلاقات بين أفرادها.. وكانت أولى نسمات الخير التي أتت بها الهجرة المباركة، بناء المسجد النبوي.
بناء المسجد كان الهم الأول، والشغل الشاغل للنبي محمد- صلى الله عليه وسلم- لأنه سيضع حدًا لسنوات عاشها المسلمون الأوائل في خوف وقلق، ومعاناة من الشدّة والتضييق، والحرمان من المجاهرة بالشعائر التعبدية، والاضطرار إلى الصلاة بعيدًا عن أعين الناس في الشعاب والأودية، أو خفيةً في البيوت، فإذا بهم يجدون حريّتهم الكاملة في أداء صلاتهم وإقامة شعائرهم دون خوفٍ أو وجل، في بيوت الله تعالى.
وجاء إنشاء المسجد النبوي بعد وقتٍ قصيرٍ من مقدم النبي إلى المدينة، فقد كان صلى الله عليه وسلم يصلي حيث أدركته الصلاة باديء الأمر، ولم يمض أسبوعان على وصوله حتى شرع في البحث عن مكان مناسب للبناء، واستقرّ رأيه على مربد- وهو الموضع الذي يُجفّف فيه التمر- كان ملكاً لغلامين يتيمين في المدينة يعيشان عند أسعد بن زرارة، رضي الله عنه، ووقع اختيار النبي على ذلك المكان عندما بركت راحلته فيه أثناء بحثه، وقال حينها: (هذا إن شاء الله المنزل) رواه البخاري.
ثم طلب النبي من سادات بني النجار الحضور ومعهم الغلامين ليعرض عليهم شراء تلك الأرض، وقال لهم: (يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا- أي اطلبوا له ثمنا- فقالوا: «لا والله لا نطلب ثمنه»، وقال الغلامان: «بل نهبه لك يا رسول الله» إلا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أبى لعلمه بحاجتهما، وعوّضهما بالثمن المناسب.
ولأن المساجد أحب البقاع إلى الله، فقد شرفها المولى، عز وجل، وعظمها لتكون مجامع للناس إليها يقصدون، وفيها يجتمعون لإقامة الصلاة، والقرب من الله، ولا يوجد مسجد في الدنيا إلا ويجب له من الطهارة الحسية والمعنوية ما ليس لغيره من البقاع والبنيان، وجميع المساجد ينبغي أن تبنى بنِية إقامة شرع الله، وأن تؤسس على التقوى من أول يوم، وما لم تكن كذلك فستكون شبيهة بمسجد الضرار الذي نُهي النبي عن الصلاة فيه {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}؛ حمايةً لسائر المساجد التي ابتُغِي بها وجه الله.
والنبي الكريم كان بإمكانه المسجد على أي أرض يريدها، ولن يمنعه أحد من ذلك، لكنه باختياره موقع أول مسجد في الإسلام، وإصراره على دفع ثمن عادل للأرض التي بُنِي عليها، أراد أن يعلمنا تعليمًا عمليًا مجموعة من المبادئ والضوابط التي لا ينبغي إغفالها عند بناء المساجد.. ومنها أن تُبنى في أماكن طاهرة من الدنس والنجس، والحرام والإثم، فلا يكون البناء على أرض مغصوبة، ولا في حكم المغصوبة، لأن هناك بعض الأراضي التي تكثر عليها الخصومات، فيتبرع أحد أطراف النزاع بها مسجدًا ليسكت الغرماء، أو تؤخذ الأرض حرجًا على وجه الحياء من صاحبها.
كما يجب أن تكون نية البناء خالصة لله تعالى، لأن أحدهم قد يبني مسجدًا على قطعة أرض يملكها، بغرض إدخال المرافق لها، وبمجرد أن يتحقق له مأربه، يبني فوق المسجد أدوارًا سكنية له وأولاده! وبعضهم يبني مسجدًا ليضمن تعيين أحد أبنائه في وزارة الأوقاف، موظفًا، أو عاملًا فيه! وبعضهم يبني مسجدًا على أرض زراعية بغرض «تبوير» الأرض حوله، وبيعها كأرض مباني، مستفيدًا من فارق السعر الهائل.. وينبغي أيضًا أن يُختار الموقع المناسب لبناء المسجد فتُبنى المساجد في الأحياء والمواقع المناسبة التي يستفيد منها جميع سكان الحي لا في أطراف العمران.. ويراعى كذلك، أن يكون جوار المسجد مكان طيب طاهر، فلا تجاوره فضاءات تنتج عنها أوساخ وغيرها.
لكن، وعلى الرغم من معرفة ضوابط ومبادئ بناء المساجد، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي اشتعلت، في الآونة الأخيرة، بالحديث عن لجوء الحكومة المصرية إلى هدم بعض المساجد «المخالفة»، من أجل تطوير المنطقة وإقامة مشروعات لـ«النفع العام»، وتباكت قنوات الجزيرة القطرية، والفضائيات الإخوانية التي تبث من تركيا على «بيوت الله»، واتخذتها ذربعة لشن هجوم ضارٍ على النظام المصري، متهمة إياه بـ«الكفر»! وأنه «يحارب الله ورسوله»! وغير ذلك من الاتهامات الإخوانية «المُعلبة»!
تنظيم الإخوان الإرهابي، ووسائل إعلامه، لجأوا- كعادتهم- إلى استغلال «العاطفة الدينية» عند بعض المصريين الذين لا يزالون ينخدعون بتجارة الجماعة الإرهابية بالدين، وتطويعه لخدمة أهدافهم الشيطانية.. فهل «الندب» الإخواني، والبكاء الذي سكبوه، والمآتم التي أقاموها على «هدم المساجد المخالفة» في مصر، «لوجه الله» و«غيرة على الدين الإسلامي»، أم لغرض سياسي، ومكايدة سياسية؟
الحقيقة التي لا تقبل التشكيك، أن بكائيات ولطميات الإخوان على هدم المساجد «غير المرخصة» والتي بُنيت على أرض مغتصبة، لم تكن خالصة لله، وإلا كنا وجدنا هذه الحماسة، وهذا الصراخ عندما هدمت حكومة خليفتهم المزعوم، رجب طيب أردوغان، أكثر من 60 مسجدًا، ليس لإقامة مشروعات تنموية، أو للنفع العام، بل لـ«أغراض تجارية»، وتحقيق أرباح مادية!
نعم.. الحزب الحاكم في تركيا، «العدالة والتنمية»، الذي يرأسه أردوغان، هدم- منذ عام 2013 وحتى 2020- أكثر من 60 مسجدًا في عددٍ من البلدات التركية التي يديرها، بهدف «إنشاء مراكز تسوق، وسداد ديون»، حسبما نشر موقع صحيفة زمان التركية، استنادًا على قائمة أعدها النائب البرلماني عن مدينة مرسين، ألباي آنتمان، عن المساجد التي هدمها رجال أردوغان في إسطنبول وملاطيا وأنقرة والعديد من المدن التركية من أجل تحقيق عائد مادي!
«آنتمان» أثبت أن الشركة الهولندية الراغبة في بناء مركز تسوق في ملاطيا، اشترت من السلطات التركية مساحة تضم بداخلها مسجدًا في عام 2013 مقابل 52 مليون و500 ألف ليرة، وأنها هدمت المسجد، في إطار أعمال الإنشاء.. كما أثبت هدم «مسجد أسنتبه» في منطقة أسكدار في إسطنبول، و«مسجد أمينة خاتون» في حي بولجورلو بإسطنبول، و«مسجد ألفرلي زادة» في حي بولجورلو بإسطنبول، و«مسجد بغلارباشي هوزور» بحي سلامي علي في إسطنبول، و«مسجد بهشالي أفلار» بحي شنجل كوي، و«مسجد جوزلتبه برليك» بحي شنجل كوي، و«مسجد باتش أورجانجي أحمد شلبي» المعروف بمسجد شينارلي بمدينة إزميت، و«مسجد يلدز» يمدينة باتمان، و«مسجد أورتا» بمدينة ريزا، و6 جوامع بحي جورجوران في إسطنبول، ومسجد قرية كوزبيلي بمدينة إزمير، ومسجد زيتينلك بمدينة طرابزون، ومسجد شايباشي وعباد الله بمدينة دنيزلي، ومركز بيالاباشي لتحفيظ القرآن في إسطنبول.
كل هذا المساجد وغيرها هدمتها حكومة أردوغان، لأغراض مادية، دون أن تبني بديلًا لها، ولم نسمع صوتًا للإخوان ولجانهم الإلكترونية، ومواقعهم الإخبارية، وقنواتهم الفضائية! فهل هدم الخليفة العثمانلي المساجد لـ«أغراض تجارية» حلال، وهدم الحكومة المصرية المساجد غير المرخصة، والمبنية على أرض مغتصبة، بهدف تطوير المنطقة، وللنفع العام، وبناء مساجد بديلة، أكثر اتساعًا وجمالًا، وتنسيقًا من التي هدمت «حرام»، كما يدعي الإخوان، وأذنابهم الذين يتباكون على المساجد، بينما يحترفون أكل الحرام، ويهاجمون أي تقدم تحققه الدولة المصرية، ويسخرون من الأزهر وعلمائه الذين أفتوا بجواز هدم المساجد لتحقيق مصلحة عامة؟
وإذا كان الإخوان، ومَن يدور في فلكهم، لا يعجبهم هدم المساجد المخالفة، بادعائهم: كيف يكون بيت الله مخالفًا في أرض الله؟ فهل يقبل هؤلاء أن تستحوذ الحكومة على بيوتهم، وأرضهم، وتحولها إلى مساجد بنفس الادعاء الفاسد «الأرض أرض الله»؟ أليس المبدأ واحد، أم أن الإخوان وأذنابهم احترفوا هذه المزايدات الرخيصة النابعة من مكايدات مفضوحة، وحولوا الدين إلى أداة سياسية لخدمة أجندتهم الشيطانية؟
إن بيوت الله، وجميع دور العبادة تستحق التكريم والعناية، وكل اهتمام.. والإنسانية في رحلة تطورها اتفقت على تنظيم شؤونها من خلال سلطة تشرعن الأمور، وتنظمها، وتعطي التصاريح والتراخيص اللازمة لإقامة أي مبنى، بحيث تكون الأمور كلها منظمة.. ومخالفة هذا النظام يضر بمصالح الناس التي تتعطل نتيجة العشوائية التي تخطتها البشرية في رحلة تطورها، فكيف يمكن أن يكون بيت الله في هذا الموقف؟