«ومن الأرق ماقتل».. علاقة عدم النوم بالوفاة
الأربعاء، 02 سبتمبر 2020 02:00 م
يتسبب السهر الزائد، والأرق المستمر في حدوث خلل جيني يؤدي إلى اختفاء النعاس تماما، وبالتالي يتعرض صاحب تلك المشكلة إلى اضطرابات عصبية ونفسية قد تؤدي به إلى الإصابة بأمراض مزمنة، أو الوفاة في بعض الحالات، وبالتالي لابد من الحصول على قسط كاف من النوم يوميا حتى لاستعادة الجسد مرة أخرى لنشاطه وقدرته على ممارسة الحياة اليومية بشكل معتاد.
«ماثيو بول ووكر» كاتب أجنبي أجاب عن سؤال حمله عنوان كتابه للتحدث حول تلك المشكلة، وهو «لماذا ننام.. اكتشف قوة النوم والأحلام»، كشف خلاله عن علاقة النوم بالكسل والنشاط.
يقول الكتاب، لقد بدأ علماء وباحثون كثر حملة لجعل الأطباء يشرعون فى مطالبة مرضاهم بالنوم، بحيث يكون ذلك جزءًا من «الوصفة الطبية»، ولعل الالتزام بتناول هذا الدواء، أى النوم واحدٌ من أقل الأشياء ألمًا وأكثرها متعة، إلا أن هذا ليس مطالبة للأطباء بأن ينصحوا مرضاهم بالإكثار من تناول الأدوية المنومة، يجب أن يكون الأمر عكس ذلك تمامًا بالنظر إلى الأدلة الكثيرة على الآثار الصحيّة المؤذية لهذه الأدوية.
فهل يمكننا المضى إلى حد القول بأن قلّة النوم يمكن أن تقتلك حقًّا؟ يمكن قول هذا فى حقيقة الأمر، وذلك من ناحيتين اثنتين على الأقل: أولًا، هنالك اضطراب جينى نادر جدًا يبدأ بظهور حالة متفاقمة من الأرق فى أواسط العمر. وبعد انقضاء شهور من تطوّر هذا المرض، يكفّ المريض عن النوم تمامًا، فى هذه المرحلة يكون المريض قد بدأ خسارة كثير من الوظائف الأساسية للدماغ والجسم، ما من أدوية معروفة الآن يمكن أن تساعد المريض فى النوم! يموت المريض، بعد اثنى عشر شهرًا، أو ثمانية عشر شهرًا، من عدم النوم، صحيح أن هذه الحالة شديدة الندرة، لكنها تثبت أن قلة النوم يمكن أن تقتل الإنسان.
ثانيًا، لدينا الحالة القاتلة المعروفة: الجلوس خلف مقود السيارة من غير أن يكون المرء قد نال القسط الكافى من النوم. إن القيادة فى حالة نعاس مسؤولة عن مئات آلاف حوادث السير فى كل سنة، مع ما تشتمل عليه هذه الحوادث من وفيات، ولا يكون الخطر هنا مقتصرًا على الأشخاص المحرومين من النوم وحدهم، بل يشمل أيضًا أرواح أشخاص آخرين، أمر مأساوى أن يموت إنسان فى حادث سير كل ساعة فى الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة أخطاء مرتبطة بالإرهاق، ومن المقلق حقًّا معرفة أن عدد الحوادث الناجمة عن قيادة السيارة فى حالة نعاس يتجاوز عدد الحوادث الناتجة عن القيادة تحت تأثير الكحول والمخدّرات معًا.
إن حالة اللامبالاة الاجتماعية تجاه النوم ناتجة، فى جزء منها، عن تقصير تاريخى من جانب العلم فى توضيح ما يجعلنا فى حاجة إلى النوم. لقد ظلّ النوم واحدًا من آخر الألغاز البيولوجية الكبرى. ولم تتمكّن الطرائق العلمية الجبارة لحل المشكلات - فى العلوم الجينية، والبيولوجيا الجزيئية، والتكنولوجيا الرقمية فائقة القدرة - من اقتحام أسرار النوم المعاندة. حاول عدد من أقوى العقول التوصّل إلى حل شيفرة النوم المبهمة، ومن بينهم الحائز على جائزة نوبل فرانسيس كريك الذى اكتشف بنية الـ«دى إن أيه» التى تشبه سلمًا حلزونيًا، والرومانى الشهير كوينتيليان الذى كان معلمًا وخطيبًا، بل حتى سيغموند فرويد نفسه، لكنهم فشلوا وذهبت محاولاتهم أدراج الرياح.
من أجل التوصّل إلى فهم أفضل لحجم هذه الحالة من الجهل بالمشكلة، ما عليك إلا أن تتخيّل ولادة طفلك الأول. تدخل الطبيبة غرفة المستشفى وتقول: «أهنئكما! إنه صبى فى صحة جيدة. لقد أنهينا الفحوص الأولية، ويبدو كل شيء فى أحسن حال». تبتسم ابتسامة مطمئنة، ثم تسير فى اتجاه الباب. لكنها تلتفت قبل أن تخرج من الغرفة وتقول: «هنالك أمر واحد فقط. سوف يتعرّض طفلكما، حتى نهاية حياته، إلى الوقوع فى حالة تشبه الغيبوبة، بل تشبه الموت فى بعض الأحيان. سيكون جسده راقدًا بهدوء، لكن هلوسات غريبة مدهشة ستملا عقله. سيكون فى هذه الحالة ثلث فترة حياته؛ وليست لدى أبدًا أيّة فكرة عن سبب هذا أو تفسيره. حظًّا طيّبًا!».
من المدهش حقًّا أن الأطباء والعلماء ظلّوا عاجزين، حتى وقت قريب، عن تقديم إجابة كاملة، أو منطقية عن هذا السؤال: لماذا ننام؟ فلنتذكّر أننا نعرف، منذ عشرات السنين، أو منذ مئات السنين، وظائف الدوافع الأساسية الثلاثة الأخرى فى الحياة: الأكل والشرب، والتكاثر، إلا أن الدافع البيولوجى الرئيسى الرابع الموجود لدى مختلف الأجناس فى المملكة الحيوانية كلها، أى الدافع إلى النوم، ظل آلاف السنين أمرًا مستعصيًا على العلم.
تزيد هذا السؤال غموضًا محاولة تناوله من المنظور التطوري، أو الارتقائي. فمهما تكن نقطة الانطلاق، سيبدو النوم الظاهرة البيولوجية الأكثر غباء. فخلال فترة نومك، تكون غير قادر على البحث عن طعام، ولا على معاشرة أفراد جنسك، ولا على البحث عن شريك أو شريكة من أجل التكاثر. تكون أيضًا غير قادر على رعاية أطفالك، أو حمايتهم. كما أن النوم يجعلك معرضًا للافتراس. من المؤكد أن النوم واحد من أكثر السلوكيات البشرية غرابة!
لأى سبب من هذه الأسباب - فكيف إذا اجتمعت كلّها معًا؟ – يجب أن يكون هنالك «ضغط» ارتقائى جديد من أجل منع نشوء ظاهرة النوم، أو أى شيء يمت لها بصلة. يقول واحد من العلماء الذين درسوا ظاهرة النوم: «إذا كان النوم لا يخدم وظيفة شديدة الحيوية، فإنه أكبر غلطة ارتكبتها عملية الارتقاء»(1)
لكنّ النوم ظلّ موجودًا وحافظ على بقاء محافظة بطولية. والحقيقية أن النوم موجود لدى كل جنس من أجناس المملكة الحيوانية خضع للدراسة حتى الآن(2). تؤكّد هذه الحقيقة البسيطة أن النوم ظهر مع ظهور الحياة على هذا الكوكب، أو بعد فترة قصيرة من ظهورها. ثم إن استمرار ظاهرة النوم خلال عملية التطوّر كلّها يعنى أن هنالك منافع كبيرة تفوق كثيرًا المساوئ والأخطار الناجمة عنه.
اتضح آخر الأمر أن سؤال «لماذا ننام؟» سؤال خاطئ. إنه يوحى بأن هنالك وظيفة واحدة، أو سببًا واحدًا يجعلنا ننام. وهكذا فإننا ننطلق باحثين عن هذا السبب. ظهرت نظريات كثيرة تراوحت من أفكار منطقية (النوم وقت من أجل حفظ الطاقة) إلى نظريات غريبة جدًا (فرصة من أجمل إغناء كرة العين بالأوكسجين)، إلى نظريات التحليل النفسى (حالة لا وعى تسمح لنا بتحقيق رغبات مكبوتة).
والنوم شيء أكثر تعقيدًا وعمقًا وإثارة للاهتمام؛ وهو مهم للصحة إلى حد يستوجب انتباهًا شديدًا. إننا ننام من أجل خدمة مجموعة واسعة من الوظائف... من أجل عدد كبير من «المنافع الليلية» المفيدة لأدمغتنا وأجسادنا. والظاهر أن ما من عضو رئيسى فى الجسد، وما من عملية رئيسية من عمليات الدماغ، لا يتعزز على النحو الأمثل بفعل النوم (تصاب الوظائف الجسدية والعقلية بضرر شديد عندما لا نحصل على القسط الكافى من النوم). لا ينبغى أن يكون مفاجئًا لنا أن هنالك وفرة من المكاسب الصحية التى نحصل عليها كل ليلة لأننا نظل مستيقظين ثلثى فترة حياتنا، ولأننا ننجز أشياء مفيدة كثيرة خلال ذلك الزمن: ننجز كثرة من المهام التى تحسّن حياتنا وتطيل بقاءنا. فكيف يصح توقّع أن تقتصر منافع النوم على وظيفة واحدة فقط على الرغم من أن النوم يأخذ من عمر الإنسان مدة تمتد خمسة وعشرين، أو ثلاثين عامًا. من خلال ثورة الاكتشافات التى تحققت على امتداد السنوات العشرين الماضية، بدأنا ندرك أن الارتقاء لم يرتكب أية غلطة عندما أبقى على ظاهرة النوم. فالنوم يوفر لنا الكثير من المنافع التى تعزز صحتنا؛ وهى منافع يستطيع كل منا أن يجنيها كل يوم إن أراد ذلك. (هنالك الكثير ممن لا يريدونه).
يؤدى النوم إلى إغناء مجموعة كبيرة من الوظائف داخل الدماغ، بما فى ذلك قدرتنا على التعلّم والتذكّر واتّخاذ قرارات وخيارات منطقية. كما أن النوم يعتنى بصحتنا النفسية أيضًا ويصحّح وضع «دارات» دماغنا الانفعالية فيمكننا من المضى بخطوات ثابتة وعقل هادئ بين التحديات الاجتماعية والنفسية التى ستواجهنا فى اليوم التالي. وقد بدأنا الآن نفهم أكثر عمليات وعينا استغلاقًا وإثارة للجدل: إنها الأحلام. إن الأحلام توفر مجموعة فريدة من الفوائد للكائنات الحية القادرة على الحلم، ومن بينها البشر. ومن بين تلك الفوائد عمليةٌ كيميائية عصبية تساهم فى مواساة المرء وتخفيف أثر الذكريات المؤلمة، فهى مساحة من الواقع الافتراضى يخلط فيها الدماغ معارف الماضى والمستقبل على نحو يحفز الإبداع.
وإذا نزلنا إلى بقية أنحاء الجسم، نجد أن النوم يعيد تهيئة نظامنا المناعي، ويساعدنا فى مكافحة الأذيّات والوقاية من العدوى ودرء أنواع كثيرة من الأمراض. ويقوم النوم بإصلاح الحالة الاستقلابية فى الجسم من خلال التوازن الدقيق للإنسولين ودوران الغلوكوز. كما أن النوم يساهم فى تنظيم شهيتنا إلى الطعام ويساعدنا فى المحافظة على وزن الجسم من خلال اختيار أنواع الطعام الصحية بدلًا من الاندفاع إلى أكل أى شيء من غير تمييز. إن النوم الوافر يحافظ على الكائنات الدقيقة التى تعيش فى الأمعاء؛ وهى الكائنات التى نعرف أن قسمًا كبيرًا من صحتنا الغذائية معتمد عليها. وثمة ارتباط وثيق بين النوم مدة كافية وحسن أداء القلب والأوعية الدموية، لأن النوم يخفض ضغط الدم ويحافظ على القلب فى صحة جيدة.
صحيح أن النظام الغذائى المتوازن وممارسة التمرينات الرياضية أمران على جانب كبير من الأهمية؛ لكننا صرنا الآن نعرف أن النوم هو القوة الأكثر بروزًا فى هذه الثلاثية الصحيّة. إن الأضرار الجسدية والعقلية الناجمة عن ليلة واحدة من النوم السيئ أكبر بكثير عن الأضرار الناجمة عن فترة مماثلة من الانقطاع عن الأكل أو عن النشاط الجسدي. من الصعب تصور أية حالة أخرى - سواء أكانت طبيعية أو ناتجة عن تدخّل طبى - يمكن أن توفّر تعويضًا أكثر أهمية فى ما يتعلّق بالصحة الجسدية والصحة العقلية.
واعتمادًا على فهم علمى جديد ثرى للنوم، لم نعد فى حاجة إلى التساؤل عن الفائدة التى نجنيها منه. بل صرنا الآن مرغمين على التساؤل عما إذا كانت هنالك أية وظائف بيولوجية غير مستفيدة من النوم الليلى الجيد. فحتى هذه اللحظة، تؤكّد نتائج آلاف الدراسات أن ما من وظيفة لا تستفيد من النوم.
يبعث هذا الاتجاه الجديد فى الأبحاث برسالة شديدة الوضوح: النوم هو الشيء الوحيد الأكثر فعالية الذى نستطيع القيام به من أجل إعادة تهيئة دماغنا وصحتنا الجسدية فى كل يوم؛ وهو أفضل ما توصلت إليه الطبيعة من أجل مقاومة الموت. والمؤسف أن الدليل الحقيقى الذى يوضح الأخطار الواقعة على الأفراد والمجتمعات نتيجة قلة النوم لا يزال غير معروض أمام الناس بطريقة واضحة. وهذا هو أكبر نقص فى المعلومات الصحية المتداولة فى زماننا. وفى مواجهة ذلك، كانت الغاية من هذا الكتاب هى أن يقدم محاولة دقيقة علميًا من أجل تلبية هذه الحاجة. ومن هنا، فإننى آمل أن تكون قراءته رحلة ممتعة حافلة بالاكتشافات الساحرة. يسعى الكتاب إلى إعادة النظر فى فهم النوم فى ثقافتنا من أجل الكف عن إهماله.