أخر متنفس لحرية التعبير يسقط في فخ تشريعات قطر الاستبدادية
الأحد، 23 أغسطس 2020 11:31 م
أصدرت الدوحة تشريعًا جديدًا يقضى تماما على ما بقي من حرية الرأي والتعبير داخل قطر أو لمواطنيها في الخارج، ويمحو ما تدعيه الدوحة من دعمها حرية الرأي والتعبير في مختلف الدول، لتصبح شعارات جوفاء، حمل رقم (2) لسنة 2020، والذى يقضى بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم (11) لسنة 2004.
ويقضي القانون بتجريم كل قَول أو فِعل قد يعارض أو يخالف بطريقة أو بأخرى سياسة الدوحة بشكل عام، ويضع مجموعة من العقوبات من بينها الحبس لمدة تصل إلى خمس سنوات وبغرامة تصل إلى مائة ألف ريال قطري (نحو 27 ألف دولار) لكل من مارس حقه في التعبير سواء داخل قطر أو خارجها تحت ستار "إثارة الرأي العام" وعبر مجموعة من المصطلحات الفضفاضة التي تشمل تقريبا كل قول مخالف لتوجهات الدولة.
المُلفت في هذا القانون هو تعمد الدوحة إبقاءه سرا، فرغم نشر القانون بالجريدة الرسمية القطرية، وقيام وسائل الإعلام القطرية الرسمية بإعادة نشر مواد القانون وخاصة جريدة "الراية" المحسوبة على الحكومة القطرية، قامت الجريدة بحذف المحتوى فورا على ما يبدو لرغبة حكومية في التعتيم على القانون بما يخالف كافة المواثيق الدولية الرامية إلى كفالة الحق في الرأي والتعبير، ويبدو أن السلطات القطرية تعمدت التعتيم على القانون نتيجة انفجار موجة من الغضب والتخوف بين الشعب القطري لما سينجم عنه القانون من القضاء على آخر منافذ حرية التعبير في قطر.
وفى تقرير أعدته مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان، أكد أيمن عقيل، رئيس مجلس أمناء المؤسسة، أنه مع بداية عام 2020، أصدر تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطـر قانون، تشريع جديد برقم (2) لسنة 2020 بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات الصادر بالقانون رقم (11) لسنة 2004، بهدف تكميم أفواه المعارضة داخل قطر أو حتى المقيمين في الخارج، حيث يقضي القانون بتجريم النقاش وإبداء الرأي في أية مسائل ترى السلطات القطرية أنها تثير الرأي العام مع استخدام مصطلحات فضفاضة تضع الجميع بلا استثناء عُرضة لهذه العقوبات.
وأوضح عقيل، أن القانون أضاف مادة جديدة (مادة 136 مكررا) تقضي بوضع عقوبات سالبة للحرية تصل إلى الحبس 5 سنوات وبالغرامة التي تصل إلى 100 ألف ريال قطري (نحو 27 ألف دولار) أو بإحدى هاتين العقوبتين، لكل من أذاع أو نشر أو أعاد نشر إشاعات أو بيانات أو أخبار كاذبة أو مغرضة أو دعاية مثيرة، في الداخل أو في الخارج، متى كان ذلك بقصد الإضرار بالمصالح الوطنية أو إثارة الرأي العام أو المساس بالنظام الاجتماعي أو النظام العام للدولة. كما يمكن مضاعفة هذه العقوبة إذا وقعت هذه الجريمة المشار إليها في زمن الحرب.
وأشار التقرير إلى أن المادة السابقة تخالف المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود."
كما تخالف المادة سالفة الذكر ما كفله العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية من حرية الإنسان في اعتناق الآراء دون مضايقة، وممارسة الحق في حرية التعبير دون قيود، كما تخالف أيضا المادة (13) من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، وكذلك مخالفة الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان في مادتها العاشرة، وكافة المواثيق الدولية التي تكفل حق الإنسان في التعبير عن آراءه.
وبدوره قال إسلام فوقي، مدير وحدة تحليل السياسات بمؤسسة ماعت، إن اللافت في هذا القانون أنه يؤكد على تحايل الدستور القطري على حماية حرية الرأي والتعبير، ففي الوقت الذي يشير الدستور القطري في مواده "46، 47، 48" إلى حرية الفرد في مخاطبة السلطات العامة ، وكذلك كفالة حرية الرأي والبحث العلمي وحرية الصحافة والطباعة والنشر ، إلا أن الدستور نفسه تلاعب في كفالة هذه الحقوق بوضع نص "وفقا للشروط والأحوال التي يحددها القانون"، أي أن حرية الري والتعبير التي يكفلها الدستور القطري غير مُفعلة لأنها ترتبط بقوانين أخرى، ومن ضمنها قانون العقوبات القطري والذي تم تعديله في مطلع عام 2020 ليفرض قيودا واسعة على هذا الحق.
كما تم كتابة القانون بصياغة فضفاضة، تفتقر إلى أدنى ضمانات حرية التعبير، ووُضع خصيصا للتنكيل بالمعارضين ومنع أية آراء قد تُعارض بصورة أو بأخرى لسياسات أمير قطر، فمن بين الكلمات التي وردت في التعديلات وأثارت مخاوف القطريين "تناول الشأن العام، دعاية مثيرة، زعزعة، مغرضة، إثارة الرأي العام، المساس بالنظام" وجميعها مصطلحات فضفاضة يمكن استغلالها في التنكيل بالمعارضة. فلا يوجد تفسير دقيق لمصطلح "تناول الشأن العام للدولة" على سبيل المثال، سوى أن القانون يتيح للسلطات الأمنية التنكيل بكل شخص يتحدث عن الشأن العام للدولة ويُصبح عُرضة للعقوبة المقررة في القانون، دون أن يتم تحديد ماهية الشأن العام للدولة، ولم يتم وضع أية ضمانات لهذا الحديث، وبالتالي هي أخطر المواد التي ذكرها القانون وتقضي تماما على مفهوم حرية الرأي والتعبير داخل قطر.
وأوضحت مؤسسة ماعت في تقريرها أنه لم يكن إصدار تشريع يجرم حرية الرأي والتعبير في قطر هو الأمر الوحيد المثير للجدل، بل في كيفية تعامل السلطات القطرية مع القانون ومحاولة إخفاءه، فرغم نشر القانون ضمن عدة قوانين وقرارات أميرية أخرى عبر الجريدة الرسمية القطرية، قامت الصحف القطرية ومنها صحيفة "الراية" المحسوبة على الحكومة القطرية بحذف نص القانون بعدما أثار انتقادات كبيرة داخل دولة قطر.
كما لم يكن حذف خبر نص القانون هو الأمر الوحيد المثير للجدل، بل في قيام نفس الصحيفة بمحاولة تبرير فعلتها بالادعاء على غير الحقيقة أن ما نشرته بخصوص تعديل قانون العقوبات في قطر جاء من مصدر غير رسمي واعتذرت من ذلك، وهو خطأ فادح لكون القانون صُدر بالفعل ونُشر في الجريدة الرسمية القطرية ومتاح للجميع داخل قطر.
وأشارت مؤسسة ماعت إلى أن قطر تعانى من غياب الإعلام المستقل بالداخل بشكل كبير، خاصة بعد حجب أهم موقع إخباري مستقبل في قطر وهو "الدوحة نيوز"، ووصفت منظمات حقوقية دولية سلوك قطر بأنها من المفترض أن تتصدر صفوف المدافعين عن حرية الصحافة وخاصة أنها مؤسسة شبكة قنوات الجزيرة، بل وتستضيف مركزا يختص بالحريات الإعلامية، ومع ذلك تستهدف أحد أهم المصادر الرئيسية للصحافة المستقلة التي تتمتع بالمصداقية في قطر.
وتخضع حرية الرأي والتعبير في قطر لرقابة صارمة، خاصة مع إصدار الدوحة قانون تحت مسمى " مكافحة الجرائم الإلكترونية" الصادر برقم (14) لسنة 2014، والذي يرفض الكثير من القيود على العمل الصحافي والإعلامي، بل ويقنن حق السلطات القطرية في حجب المواقع التي ترى فيها "تهديدًا لسلامة البلاد"، ومعاقبة من يقوم بنشر أو تبادل محتوى رقمي "يقوض" من "القيم الاجتماعية" أو "النظام العام في قطر" . وهي مصطلحات فضفاضة تبرر إحكام قبضة الدولة على منافذ التعبير.
كما يفرض القانون عقوبات بالحبس لمدة تصل إلى ثلاث سنوات وبغرامة كبيرة تصل إلى 500 ألف ريال قطري (137 ألف دولار أمريكي)، من يخالف أحكام هذا القانون الذي يقوض بشدة ممارسة العمل الصحافي بحرية، كما تحتل قطر المرتبة 128 على مستوى العالم في مؤشر التصنيف العالمي لحرية الصحافة لعام 2019.
ومن المُثير للانتباه أن قطر تدعي عبرَ منابرها الإعلامية التي تُغطي تقريبا أهم الأحداث التي تشهدها دول العالم، أنها تكفل الحريات بشكل عام، وتدعم حرية الرأي والتعبير بشكل خاص، وتروج عبر شبكات قنواتها الشهيرة حول العالم إلى ضرورة تعزيز أوضاع حقوق الإنسان وإعلاء قيم حرية الرأي والتعبير، وضرورة الاستماع إلى اختلاف الآراء والصوت الآخر، ورغم ذلك تعاني الدوحة من غياب هذه الحريات التي تدعو إليها في الداخل، بل وتصدر قوانين صُنعت خصيصا لإسكات الأصوات المعارضة، في تحدي واضح لكافة المواثيق الدولية الداعمة لحماية وتعزيز حقوق الإنسان.
ويأتي إصدار القانون في وقت تعاني فيه قطر من تزايد الأصوات المعارضة للحكومة القطرية بسبب العديد من الأزمات الإقليمية التي تعد الدوحة طرفا فيها، وخاصة ما يتعلق بتدخلها في شئون دول أخرى بشكل سافر نتجه عنه تكوين عداءات ومقاطعات دبلوماسية مع الدول المجاورة لها، إلى جانب الاتهامات التي تلاحق قطر حول دعمها الجماعات الإرهابية، وهي أمور أجبرت الحكومة القطرية على مواجهة الأصوات المعارضة من خلال وضع تشريعات تقضي على ما تبقى من حرية التعبير في هذا البلد المتباهي بدفاعه عن قضايا حقوق الإنسان ولكن في جميع الدول ما عدا قطر .
وقوبل القانون برفض شعبي كبير سواء داخل قطر أو خارجها، فخرجت عشرات التساؤلات حول جدوى إصدار قانون يُنهي تماما على الحق في التعبير، ويحول الآراء والأفكار المعارضة إلى جرائم تقتضي الحبس أو الغرامة أو بالعقوبتين معا. واعتبر البعض أن المصطلحات الفضفاضة تستهدف إخراس المعارضة، فيما وصف البعض القانون بأنه يقتل الإبداع والتطور والتفكير ويعارض أدنى معايير حقوق الإنسان، كما يرى البعض أن حرية التعبير حق من حقوق الإنسان وليست منحة من السلطان، في إشارة إلى أمير دولة قطر.
فيما دعا البعض إلى اللجوء إلى المحكمة الدستورية في البلاد للنظر في دستورية هذه التعديلات، لوجود غموض في تفسيرات مواد القانون التي تتعارض مع حرية التعبير التي كفلها الدستور في قطر، وكانت قطر تعاني من وجود مواد فضفاضة في القانون رقم (11) لسنة 2004 قبل تعديله، بيد أن هذا التعديل جعل الأمور أكثر سوءا، وهدفه القضاء تماما على الأصوات المعارضة داخل البلد الذي يعد نظام الحُكم فيه "إمارة وراثية دستورية"، وهو ما يجعل الأسرة الأميرية المتحكمة في كافة مقاليد الأمور داخل البلاد.