وتآمرت قريش على قتل المصطفى في مكة، ورغم ذلك لم ينسَ أن يوصي قبل هجرته برد الودائع التي أودعوها عنده، وأرسل المصطفى بالهدى ودين الحق فكذَّبه قومه وعذَّبوه، لكنه صبر واحتسب على ما تجرَّعه من شدائد؛ إلى أن انقاد له قومه فعفا وأصلح ودخل الناس في دين الله أفواجًا.
وهيأ رسول الله لصحابته مكانًا يأمنون فيه من عدوان المشركين؛ ليجدوا مكانًا يتيح لهم إقامة الشعائر وخوفًا على حياتهم ومعتقداتهم من الفتنة، وبات علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليلة الهجرة على فراش الرسول، ولم يخشَ من القتل، تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول الله، وتلك هي المحبة الصادقة.
كما هاجر المصطفى وترك وطنه من أجل رضا الله، فأعز به الإسلام وسخر له الأمم لنصرته، ومن تلك المشاهد أيضا اختيار الرفيق الصالح في السفر، فعند القيام بصعاب الأمور؛ يقوي العزيمة، ويرفع الهم فالأعداء كانوا أمام الغار، إلا أن رسول الله قال لصاحبه: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟»ما أجمل الثقة بالله في أشد المحن!، كما بيَّنتِ الهجرة النبوية ذكاء وبراعة المرأة المسلمة، فعندما لم تجد السيدة أسماء بنت أبي بكر ما تحمل فيه الزاد إلى النبي ، شقَّت نطاقها نصفين لتحمله فيه، فلقبت بذات النطاقين تكريمًا لها إلى يوم الدين، وبالرغم ما لقي من الأذى من قومه، وقُذِفَ بالحجارة حتى أسالوا دمه الشريف؛ تمنى لهم الهداية.
ولقد حرص المصطفى منذ دخوله المدينة المنورة على ترسيخ مشاعر الحب في الله، بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار؛ لأن الحب أقوى دعائم بناء الأمة، و أبرم رسول الله معاهدات مع اليهود في المدينة؛ لأن المشاركة خير وسيلة لإعمار الأرض، فلم يكن المصطفى ينتقم لنفسه؛ لذلك عندما عاد إلى مكة عفا عن قومه واستغفر لهم، بعد أن حاربوه وقاتلوه إحدى وعشرين سنة ،كما عرضت قريش على رسول الله المناصب والأموال ليترك دعوته، فأبى؛ لأنه لم يُرِدْ ملكًا ولا سلطانًا، وإنما هدايةَ القلوب والعقول، فَرِضا الله وجنته أعز وأغلى عنده من كل مناصب الدنيا وجاهها وأموالها.
كما كان الصحابة الكرام يحنُّون إلى مكة ويشتاقون إلى العودة إليها رغم ما ذاقوه فيها من العذاب؛ لأن حب الوطن فطرة إنسانية وفريضة دينية، فدعا رسول الله أن يحبِّب الله إليهم المدينة كحبهم لمكة، و كان دليل المصطفى في هجرته رجلًا غير مسلم هو عبد الله بن أريقط ؛ وهذا نموذجٌ عمليٌّ لجواز الاستعانة بغير المسلمين واستعمالهم في دقائق الأعمار،و لما رأى المصطفى صاحبه أبا بكر مشفقًا عليه وجزعًا على ما هما فيه، قال له في ثبات وسكينة: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، كما أن طمأنة القلوب وتطييب النفوس من صفات الأنبياء؛ ومن سار على نهجهم من الأتقياء، فلقد نجى الله تعالى رسوله وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في «غار ثور»؛ فالله لطيف بعباده المخلصين، يدافع عنهم ويعمي عنهم أبصار المتربصين بهم.