لم يكن الأمر بحاجة إلى انتظار موت الإخواني عصام العريان، أو حتى بيان النعي الذي أطلقته ما سميت على فيسبوك بنقابة الأطباء، والتي تعج بآلاف الأعضاء، للبكاء على أحد القيادات الملوثة أيديهم بالدماء بأحكام قاطعة، لكي نقر بأن النقابات المهنية قنبلة موقوتة تهدد أمن مصر في أي لحظة إذا ما وجدت الفرصة سانحة للانفجار.
قول واحد وبلا مواربة نقابات مصر، بلا استثناءات، قائمة على أفرع وأعضاء وهيكل لا يختلف في أي شيء عن هيكل تنظيم جماعة الإخوان نفسها، بل إن عدد كبير من نقابات مصر يقودها عناصر كانت فاعلة وبقوة قبل إسقاط حكم الجماعة، سرطان يستقر في جسد الجهاز الإداري ومفاصل المؤسسات الحكومية، لم يكف عن تمرير رسائل وتوجيهات الجماعة في الخارج على عهد ما يرسمه القيادات.
في الأطباء، الصيادلة، المحامين، المعلمين، وقبلهم الصحفيين.. وغيرها، قوائم من الأسماء ليست ذات ميول إخوانية فحسب بل لديها إمكانية، كما حدث في غير وقائع سابقة، بالمجاهرة بفكر الجماعة والإيمان الكامل بعداء النظام الحالي، والاستعداد لتوجيه الجماهير، الغريبة أن تلك الأسماء معروفة لقيادات الوزارات لكن التقاعس والإهمال والمحسوبيات التي أصبحت بديلا لثالوثية الفقر والمرض والجهل قبل يناير 2011 تمنع تنظيفهم.
10 ملايين عضو بالتمام والكمال يمثلون النقابات المهنية في مصر، كانت معقلا وقلعة لقيادات وخلايا جماعة الإخوان يتوارون بداخلها من الملاحقات، وقد نجحوا في ذلك، بها يحركون الجماهير خلف الكواليس، وبها يمارسون الألاعيب السياسية والضغوط على الأنظمة، وبها يتواجدون بكتلة لا بأس بها داخل كل مؤسسات الدولة.
بل إن سياسة الجماعة في البداية وصولا إلى كرسي الحكم عن طريق البدء بالسيطرة على قاعدة الهرم التي تمثل النسبة الكبرى في المجتمع، ما بين الموظفين والنقابات المهنية التي تمثلهم، الأمر سيكون سهلا إذا تعلق بوعود المنح وزيادة المرتبات وتقديم خدمات ولعب دور يد الله لرفع الظلم عن الكادحين.
استطاعت الجماعة حتى الآن في اختراق النقابات المهنية، بداية من فترة الثمانينيات التي شهدت تطورا كبيرا فى الفكر السياسي للجماعة، وكانت النقابات المهنية أولى ثمار ونتاج هذا التطور والتي كانت امتداد لا ينفصل عن الجامعات المصرية، وهي الخطة الثانية للجماعة تستطيع من خلالها فرض انتشارها ووجودها السياسى والمجتمعي، ومحاولة تعويض المعوقات السياسية التى فرضت عليها، فقد دشنت الجماعة فكرا جديدا خاصا بها، وهى ضرورة إنشاء قواعد بديلة كمؤسسات مجتمعية تكتسب شرعية قانونية وشعبية، فكان المنفذ لذلك النقابات المهنية.
بالعودة سريعا إلى صفحات تاريخ الجماعة، فقد تغلل أعضاء التنظيم في النقابات المهنية ، خصوصًا النقابات الطبية وعلي رأسها نقابة الأطباء، والمهندسين، حتي نجحوا في الفوز بعدد كبير من مقاعد مجلس تلك النقابات، ومن ثم السيطرة عليها، وبدا بزوع نجم الإخوان لأول مرة في الانتخابات النقابات في انتخابات نقابة الأطباء التي جرت عام 1984، وخلال عامين أصبح لهم قوائم في انتخابات نقابات المهندسين وأطباء الأسنان والزراعيين والصيادلة والصحفيين والتجاريين والمحامين.
وقد حصل الإخوان في نقابة الأطباء على 7 مقاعد من ضمن 25 مقعدا تشكل مجلس النقابة عام 1984، بعدها توسع نفوذهم في نقابة الأطباء خلال السنوات الست التالية بصورة كبيرة، وصل عدد الإخوان في مجلس النقابة عام 1990 إلى 20 مقعدًا، وقد شارك الإخوان في نقابة المهندسين منذ عام 1985، وفي 1987 فازوا بـ45 مقعدًا من ضمن 61 مقعدًا في مجلس النقابة، وسيطر الإخوان على واحدة تلو الأخرى من النقابات المهنية ، حتى توجت تلك الانتصارات في انتخابات نقابة المحاميين، معقل النشاط السياسي الوطني عام 1992 حيث حققوا فوزا، وحولت الجماعة النقابات كساحة للعمل السياسي، وللتعبير عن مواقف معارضة لسياسة الدولة، وبدت نقابات المهندسين والأطباء والمحامين بمنزلة منابر سياسية.
صحيح أن جهود كبيرة بذلتها الدولة لتجفيف منابع الجماعة وسيطرتهم على النقابات المهنية، لكن كانت التحركات بمثل المهدئات، ووضع ضمادات على الجرح الغائر دون إيقاف النزيف وتنظيفه وإغلاقه جيدا، لم تكن واقعة النعي "المأثوم" للصفحة التي حملت اسم نقابة الأطباء على فيس بوك سوى حجر آخر نكأ هذا الجرح على مقربة هذه المرة، بل على الأرجح كان رسالة وبالونة اختبار بأن الجماعة ما زالت تحمل أنبوب تنفس رغم كل المسامير التي دقت في نعوشهم.
كل ما عليك هو الاقتراب أكثر من التعليقات على منشور صفحة نقابة الأطباء حتى تتيقن حجم الكارثة. لطميات وبكائيات ووصلات من التمجيد، بعدها تحول الأمر إلى هجوم على مسؤولي الصفحة لأنهم تأخروا في نعي الإخواني عصام العريان "أستاذهم ومعلمهم"، حتى أولئك الذين كانوا يلعبون لعبة الحياد لا بالترحم ولا بالدعاء على قيادات الجماعة الراحلين، لا يمكنهم الآن إيجاد مبرر في سطوة سرطان الجماعة داخل النقابات.
نقابة الأطباء التي لم نر منها نعيا لأبناء مصر في المستشفيات الذين ضحوا بحياتهم في مواجهة وباء كورونا القاتل، غير أسماء معروفة انتمائها، وأصبح النعي بتوصية ومحسوبية سياسية، تركت صفحاتها تترحم على عصام العريان ببالغ الحزن والأسى والقلوب المنفطرة، وليخرج المتأخونين من جحورهم مرة أخرى.
طالما أنه لا مصالحة مع جماعة يدها ملوثة بماء الأبرياء من أبناء مصر، ومتورطة في المؤامرات لإسقاط الدولة وما زالت، فلا مواربة أيضا مع من يُثبت ولو تعاطفه مع هؤلاء حتى ولو بمجرد التلميح، وكل مسؤول يقف متفرجا بدعوى الحرية ونغمة التزييف بالديمقراطية.
والقول الفصل أصبح الآن إما موجة غربلة أشد قوة مما سبقتها في مؤسسات الدولة، بين قوسين على رأسها النقابات المهنية، للعناصر التي تعمل بفكر الإخوان ولصالح محسوبيهم والمسؤولين الواقفين في المدرجات، وإما انتظار نتائج لا تحمد عقباها.