«الفشخرة الكدابة»!
الأربعاء، 29 يوليو 2020 04:12 م
ما أجمل عمل الخير.. وما أفضل من جبر خواطر الناس، وخدمتهم.. وما أروع أن تمسح دمعة باكٍ، أو تنتصر لمظلوم، أو تساعد مريضًا، أو تقضي دين مدين، أو تسند محتاجًا، أو تدخل الفرحة في قلب تعيس، أو ترسم البسمة على شفاة قاست طويلًا، وأذاقتها الأيام صنوف الشقاء والمرارة والألم..
لكن كما أنت مطالب بفعل الخير، وأن تصنع المعروف في أهله وفي غير أهله.. أنت مطالب أيضا بأن تكون كيِّسًا فطنًا، وأن تتحرى أوجه إنفاقك، وتتحرى عن المحتاج الحقيقي، حتى يذهب صنيعك لمن لا يستحق.. خاصة وأن بعض الناس يحترفون التسول، ومد اليد، وكشف الوجه، ويبتزون مشاعر الراغبين في عمل الخير، ويحصلون- بسيف الحياء- منهم على أشياء لا يستحقونها، وهناك غيرهم أكثر احتياجًا منهم، لكن تحسبهم أغنياء من التعفف!
في يوم جاءت سيدة «رقيقة الحال»، إلى شقيقة زوجتي، تطلب المساعدة؛ لـ«تجهيز ابنتها»، التي هي «على وش جواز».. فاتفقنا فيما بيننا على مساعدتها.. كل واحد يجيب حاجة من «الجهاز»، وحددنا الأدوار.. الأول يتحمل تكاليف الثلاجة، والثاني عليه البوتاجاز، والثالث الغسالة نصف أتوماتيك.. وهكذا.
وقبل موعد زفاف ابنتها بشهرين أو أكثر طلبت هذه السيدة مبلغًا ماليًا كبيرًا، ولما سألتها زوجتي عن أوجه إنفاقه، أخبرتها بأن ابنتها «ناقص لها حاجات كتير في الجهاز»، وأخذت تعدد لها هذه الأشياء «الديب فريزر، والغسالة الأتوماتيك، والتليفزيون الـLCD، والميكرويف، وغسالة الأطباق...». في الوقت الذي كانت فيه «المدام» بـ«تقمر» العيش على نار البوتاجاز، وتواصل غسيل الصحون والحِلل «يدويًا»، حتى ترك «البيريل» شقوقًا في «يدها» تنافس «شق التعبان»، ولم يعد يجدي معها، الجلسرين، ولا كريمات ومراهم الترطيب..
كانت صدمتي كبيرة، فيما سمعته من زوجتي.. فقد تربينا على أن: «كل برغوت على قد دمه»، و«على أد لحافك مد رجليك»، و«لا تنظر إلى شيء ليس لك، ولا تشته ما لا يمكنك امتلاكه».. وقبل كل ذلك تربينا على قول الله- عز وجل: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وسْعَهَا»..
فالعقلاء الأسوياء هم الذين يدربون أنفسهم باستمرار على التحكم في شهواتهم؛ من خلال إيمانهم وتطبيقهم إستراتيجية «الاكتفاء والاستغناء».. فهم يكتفون بما عندهم، وإذا ما اشتهوا شيئًا لا يستطيعون امتلاكه، أخرجوه من قلوبهم، وأغلقوا عليه تفكيرهم؛ فيرضون ربهم، ويريحون أنفسهم.. أما الحمقى فلا يدركون قيمة وجمال ما يملكون، ويشغلون أنفسهم بما في يد الغير؛ فيعصون ربهم، ويتعبون أنفسهم.. ولن يحصلوا من الدنيا إلا ما كتب الله لهم.
لقد خاطب النبي- صلى الله عليه وسلم- الشباب، قائلًا: «... فاظفر بذات الدين تربت يداك»، ولم يقل «فاظفر بذات الجهاز الهاي كلاس»..! وخاطب أولياء أمور الفتيات قائلًا: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»، ولم يقل لهم «إذا جاءكم الواد الجان أو الفِتْ أو الريتش فزوجوه»!
لكنها «الفشخرة الكدابة» يا سيدي.. تلك «الفشخرة» التي جعلتنا نقبل «الشحاتة، والتسول، والاستدانة، والذلة، والمهانة..»، لمجرد «المنظرة» على خلق الله، أو الوصول إلى «مساواة»- لن تتحقق- مع الغير.. ناسين، أو متناسين، أن الله خلقنا «متفاوتين»، في كل شيء؛ في الرزق، والصحة، والعلم، والوظائف، والمناصب، والطبقة الاجتماعية.. قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ».
ولـ«فشخرة المصريين الكدابة» طرق عديدة.. فأنا أعرف أصدقاء يقترضون من البنوك لمجرد شراء سيارة جديدة؛ محملين أنفسهم أعباءً على أعبائهم.. وهناك مَنْ يستدين لشراء «شقة» في «كمباوند»؛ لمجرد أن يجاور «حاجة من ريحة عِلية القوم».. وهناك مَنْ «يستلف» من زملائه؛ لشراء ملابس، وأحذية، وبارفانات، ذي ماركات عالمية، رغم أن مستواه المالي لا يسمح له إلا بالشراء من «فرش» الباعة في «العتبة»، أو من «عبعاطي مول»!
أما أسوأ أنواع «الفشخرة»، أن تجد مَنْ «يستلف»؛ لـ«يحج أو يعتمر»؛ ليحصل على لقب «حاج»، غافلًا، أو متغافلًا، أن الله- عز وجل- قال: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».. أو أن يذل نفسه لـ«طوب الأرض»؛ لمجرد «قضاء يومين» في مارينا أو مراسي، أو بورتو السخنة...!