أيمن عبد التواب يكتب: آيا صوفيا.. هل أردوغان يخدم الإسلام؟
السبت، 25 يوليو 2020 07:30 م
الإسلام حرَّمَ الاعتداء على دور العبادة ويحترم عقائد الآخرين انطلاقًا من المبدأ الإلهي: «لكم دينكم ولي دين»
فجأة، أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن تحويل كنيسة ومتحف «آيا صوفيا» إلى مسجد، واعدًا أنصاره وأتباعه بأن أول صلاة جمعة سوف تقام في «مسجد آيا صوفيا» سيكون يوم 24 يوليو الجاري-أمس الجمعه-! واتخذ هو وحكومته تدابير وإجراءات، وإغراءات عدة، لضمان حشد أكبر عدد من أنصاره في هذا اليوم.
التاريخ يقول إن كاتدرائية آيا صوفيا بُنيت في عهد الإمبراطور الروماني جستينيان الأول، عام 537م، وتقع على الضفة الأوروبية في مدينة إسطنبول قبل أن يحولها السلطان العثماني محمد الثاني إلى مسجد عام 1453م. ولكن في عام 1935 حُوِّل المسجد إلى متحف، قبل أن تقضي المحكمة الإدارية العليا في تركيا، في يوليو الجاري 2020، بإلغاء المتحف، وإعادة المبنى إلى مسجد.
قرار الرئيس التركي قوبل بتنديد على نطاق واسع، سواء على مستوى الدول والمنظمات المعنية، وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (يونسكو)، التي كانت أدرجت «آيا صوفيا» على قائمة التراث العالمي.
السؤال: هل أردوغان- بهذا الفعل- يقدم خدمة جليلة للإسلام؟ وهل تحويل كنيسة أو متحف إلى مسجد، سيزيد الإسلام قوة، ويجعل أتباع الديانات الأخرى يتسابقون للدخول في الدين الإسلامي؟ أم أن ما أقدم عليه الرئيس التركي يتنافي مع الإسلام، الذي حرَّمَ الاعتداء على دور العبادة، ويحترم عقائد الآخرين، انطلاقًا من المبدأ الإلهي: «لكم دينكم ولي دين»؟
ألا يعلم أردوغان ما فعله نبي الإسلام محمد- صلى الله عليه وسلم- مع وفد «نصارى نجران»، المكون من 14 إلى 60 نصرانيًا، بحسب روايات عدة؟ فهؤلاء قدموا على رسول الله، ودخلوا عليه مسجده، ومكثوا في المدينة المنورة نحو أسبوعين، كانوا خلالها يجادلون النبي، يسألونه ويسألهم.. والشاهد هنا، أنهم أثناء وجودهم مع النبي في مسجده بعد صلاة العصر، «حانت صلاتهم»، فقاموا يصلون في مسجد رسول الله، فلما أنكر الصحابة عليهم صنيعهم، قال لهم النبي: «دعوهم، فصلوا إلى المشرق»!
وأين الرئيس التركي من عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- الذي عقد معاهدة مع أهل إيلياء (بيت المقدس) عام 15 هجرية، وجاء فيها: «هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيليا من الأمان. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها.
أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شئ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم..»؟ ألم يطلع أردوغان على هذه المعاهدة، ولم تصل إلى أسماعه، ولم يخبره بها أحد من المحيطين به؟
وأين الخليفة التركي من «الفاروق» عمر، رضي الله عنه، الذي دخل عمر بيت المقدس، وجاء كنيسة القيامة، وجلس في صحنها، ولما حان وقت الصلاة، قال لأسقفها صفرونيوس: أريد الصلاة. فقال له: صلِّ موضعك. فرفض عمر وصلَّى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردًا، حسبما جاء في «تاريخ ابن خلدون»، فلما قضى عمر صلاته، قال لأسقفها: لو صليتُ داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلَّى عمر! وكتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة ولا يؤذن عليها»؟!
ألم يصل إلى مسامع الغازي التركي أن الوليد بن عبد الملك عندما بنى الجامع الأُموي بدمشق على قسمٍ من أرض كنيسة يوحنا، جاء الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز بعدها بأقل من خمس سنوات وفاوض رجال الدين الأرثوذكس طويلاً حتى رضوا بكنيسة على مقربة من أرض كنيستهم، وبـ14 كنيسة في غوطة دمشق. وما كان عمر بن عبد العزيز رغم ذلك مسروراً وقال: «والله لو لم يرضوا لهدمتُ المسجد، لأنّ الصلاة في الأرض المغصوبة لا تصح»!
ألم يمر بمسامع أردوغان وحاشيته فقه الفقيه المصري، الليث بن سعد، الذي أفتى بأن «الكنائس في الإسلام من عمارة الأرض»، مستدلًا على صحة رأيه بقوله تعالى: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ»؟ وأن والي مصر في عهد هارون الرشيد، كان اسمه «علي بن سليمان».. وهذا الوالي هدم عددًا من الكنائس، فكتب الليث بن سعد، فكتب إلى الخليفة لعزل «ابن سليمان»، لنشره «البدعة، ومخالفته روح الدين»!
حينها أمر الرشيد بعزل علي بن سليمان، وولى «موسى بن عيسى» بدلا منه، وأمره بإعادة بناء الكنائس التي هُدمت، بل وبناء كنائس جديدة كلما طلب المسيحيون ذلك! «ثم أذن موسي بن عيسي للنصاري في بنيان الكنائس التي هدمها علي بن سليمان فبنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، وقالا هو من عمارة البلاد، واحتجا أن عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم»..
تاريخيًا ودينيًا لم يثبت أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أو الخلفاء الراشدين، أو الحكام المسلمين الراشدين، أمروا بهدم دور عبادة، أذن الله- تعالى- أن ترفع ويُذكر فيها اسمه.. فالإسلام دين التعايش، دين احترام شعائر الآخر، وعقائد الآخرين، كما أنه دين لا يعرف الإكراه، ولا يُقر العنف، لم يجبر أحدًا على الدخول فيه. يقول تعالى: «لا إِكْرَاه في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ». وقال أيضًا: «لَكُمْ دِينُكُم ولِيَ دِينِ».
والإسلام عندما أقر بقاء الناس على دينهم، فقد سمح لهم بممارسة صلواتهم، وشعائرهم وطقوسهم الدينية في دور عبادتهم.. بل إنه أمَّنهم على كنائسهم، وصوامعهم، وبيعهم، وضمن سلامة دور عبادتهم، وأولاها عناية خاصة؛ وحرم أي اعتداء عليها.. فقد جاء في كتب السنة النبوية الشريفة، أن الرسول- صلى الله عليه- كتب لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: «أنّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ألّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه؛ ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم، غيرَ مُثقَلين بظلم ولا ظالمين».
بل إن الإسلام ذهب لِمَا هو أبعد من ذلك؛ إذ أمرنا بالبر والرحمة والعدل في التعامل مع المخالفين لنا في الدين والعقيدة، قال تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».. فكانت مبادئ الإسلام السمحة، النبيلة العظيمة، وتخلق المسلمين بها، سببًا في انتشار الحضارة الإسلامية، ودخول كثير من الناس في الدين الإسلامي.. ومصر- على امتداد تاريخها- لم تشهد حادثة واحدة تحولت فيها كنيسة إلى مسجد، أو مسجد تحول إلى كنيسة..
وبناءً على ما تقدم، فإن ما أقدم عليه أردوغان بتحويل كنيسة ومتحف آيا صوفيا إلى مسجد، لا ينم إلا عن جهل وحماقة الرئيس التركي؛ فضرر هذا التحويل أكبر من نفعه.. والشريعة الإسلامية تقدم درء المفسدة على جلب المنفعة.. وإضافة مبنى، أيًا كان حجمه وقيمته- لمساجد المسلمين لن يضيف للإسلام، وبقاءه كما هو لن ينتقص من الإسلام فتيلًا.. لكن ما من شك أن التصرف الأخرق لأردوغان، ومحاولة تصوير فعله هذا على أنه «انتصار للإسلام»، يزيد من تشويه صورة الإسلام المترسخة في أذهان الشرق والغرب، ويدعم الصورة الباطلة التي يتبناها أعداء الإسلام من أنه دين عنف وإرهاب، ومتعطش للدماء، ولا يحترم عقائد الآخرين، وأن الإسلام دين انتشر بالسيف والعنف، وغيرها من الاتهامات الباطلة التي منها الإسلام براء.
لقد أمرنا الله- تعالى- بسد الذرائع المؤدية لسبه- سبحانه- حتى لا نفتح الباب لتطاول السفهاء عليه، وعلى نبيه، وعلى دينه الحنيف: «وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ».. فهذه الآية تدل على عدم جواز استفزاز أصحاب الديانات الأخرى بالفعل أو القول، أو الإشارة، أو كل ما يجعلهم يزدادون به نفورًا من الإسلام، وبعدًا عن الحق.. كما يخالف تصرف أردوغان، مبدأً قرآنيًا راسخًا، وهو عماد من أعمدة الدعوة الإسلامية: «ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ».. فهل تصرف أردوغان يمت بصلة قرابة من قريب أو بعيد للحكمة أو الموعظة الحسنة؟