إن الله يزع بالسلطان
الأحد، 05 يوليو 2020 09:00 ص
كنت قد عرفت أن المساجد ستفتح أبوابها بداية من فجر السبت 27 يونيو 2020، بعد إغلاق تواصل لثلاثة أشهر بسبب انتشار وباء كورونا.
فرحتي بعودة المساجد لم تجعلني أغفل عن مراقبة أعمال وزارة الأوقاف في تهيئة المساجد لاستقبال المصلين، وللحق فقد رأيت العمال وهم ينظفون المسجد الذي أرتاده بهمة ودقة، ورأيتهم وهم يعقمونه، ثم رأيتهم يحددون بحرص المسافات الآمنة التي يجب أن تفصل بين المصلين، فلما أطل فجر السبت سعيت إلى المسجد مطمئنًا غير خائف ولا متردد.
قلت في نفسي: هذا فجر تاريخي يأتي لري شوق طال، فلا بد من حضوره ومشاركة الناس فرحتهم.
جلست منفردًا بالقرب من بوابة الدخول، لأحصى الداخلين ولأعرف إلى أي مدى استجابوا للتعليمات القاضية بأن يتقنع كل مصل بكمامة وأن يحمل معه سجادة صلاة خاصة به.
دخل خمسون رجلًا وفتى إلى المسجد، غابت النساء والأطفال، أربعون من الخمسين كانوا جاهزين بالكمامات والسجاجيد.
العشرة الباقون، كانوا على فريقين، خمسة منهم كانوا مسلحين إما بسجادة أو بكمامة، الخمسة الأخيرة حضروا وغابت عنهم الكمامات والسجاجيد!
كانت نسبة الملتزمين مفرحة ومبشرة بزيادة درجات الوعي الذي يجب أن نتسلح به جميعًا في مواجهة وباء جعل دولًا عظمى تخر راكعة لا حول لها ولا قوة.
كان من سوء حظ واحد من غير الملزمين أن تكون صلاته على مقربة مني، بعد ختم الصلاة قلت له ناقدًا سلوكه كلامًا سخيفًا جدًا، فلم يدافع عن نفسه بكلمة!
للحق كنت أريد تحريض إمام المسجد عليه وعلى غيره من الذين لم يأخذوا حذرهم وتعاملوا باستهانة وكأن كورونا قد ذهب إلى غير رجعة.
في لحظة عقل قلت لنفسي: بل الواجب تحريض وزارة الأوقاف نفسها ضد غير الملتزمين، وذلك لأن الليالي التي جاءت بعد ليلة الافتتاح التاريخية قد شهدت زيادة حالات الاستهتار!
الوزارة قامت بالواجب عليها ونظفت المساجد وعقمتها، ولكن يجب عليها أن تحافظ على وجودها بوصفها الجهة المسئولة عن عموم المساجد، على الوزارة أن تطلب صراحة بل تأمر أئمتها بطرد غير الملتزمين.
جاء في أثر منسوب لذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وقال العلماء في تفسير هذا الاثر: يُمنع بالسلطان من اقتراف المحارم أكثر مما يمنع بالقرآن؛ لأن بعض الناس ضعيف الإيمان لا تؤثر فيه زواجر القرآن ومناهي القرآن، بل يقدم على المحارم ولا يبالي، لكن متى علم أن هناك عقوبة من السلطان ارتدع خاف من العقوبة السلطانية، فالله يزع بالسلطان يعني: عقوبات السلطان يزع بها بعض المجرمين أكثر مما يزعهم بالقرآن؛ لضعف إيمانهم وقلة خوفهم من الله، ولكنهم يخافون السلطان لئلا يسجنهم أو يضربهم أو ينكلهم أموالاً أو ينفيهم من البلاد، فهم يخافون ذلك وينزجرون من بعض المنكرات التي يخشون عقوبة السلطان فيها، وإيمانهم ضعيف فلا ينزجرون لزواجر القرآن ونواهي القرآن؛ لضعف الإيمان وقلة البصيرة.
وزارة الأوقاف تمثل في هذه الزاوية هيبة السلطان وسلطاته وهى قبل غيرها تعلم أن صيانة النفس البشرية أهم مقاصد الشريعة، والذين لا يلتزمون بالتعليمات الواجبة والتي تستهدف الحرص على النفس البشرية، يجب أن يحرموا من الصلاة في المساجد وليقم كل منهم في بيته.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - يَعْنِي الثُّومَ - ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا).
والحديث ذاته عند الإمام مسلم ولكن بلفظ ( فَلَا يَأْتِيَنَّ الْمَسَاجِدَ).
وروى الإمامان البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا ، فَلْيَعْتَزِلْنَا ، أَوْ قَالَ : فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا ، وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ).
وروى النسائي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ [الثُّومِ وَالْبَصَلِ وَالْكُرَّاثِ]، فَلَا يَقْرَبْنَا فِي مَسَاجِدِنَا، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ الْإِنْسُ). صححه الشيخ الألباني في "صحيح سنن النسائي".
الرسول الكريم ينهى عن شهود الذين يأكلون الثوم والبصل والكراث لصلاة الجماعة، وسواء أكان النهي للتحريم أم للكراهية، فهناك نهي واضح صريح لا لبس فيه، فكيف كان الرسول سيقول لو شهد زمانه وباءً كالذي يحاصرنا ويحصد يوميًا آلاف الأرواح في شتى بقاع الأرض.
المساجد رغم اتساع بعضها إلا أنها في النهاية أماكن مغلقة، ولا ينشط كورونا كنشاطه في الأماكن المغلقة، فعلى الأوقاف أن تكمل جميل ما صنعت وتقف في وجوه المستهترين، لكي لا يؤخذ الملتزم بجريرة المستهتر، فتزيد -لا قدر الله- معدلات انتشار الوباء، فتقوم الدولة ـ وستكون محقة ـ بإعادة إغلاق المساجد، فيدفع الملتزمون ثمن ذنب المستهترين.