مجلس الأمن يشهر الكارت الأصفر في وجه إثيوبيا..
المندوب الإثيوبى بالأمم المتحدة يكشف نوايا بلاده للإضرار بمصالح مصر والسودان ببناء سد النهضة
السبت، 04 يوليو 2020 10:00 م
كانت جلسة مجلس الأمن الاثنين الماضى بشأن سد النهضة كاشفة لمجموعة من الحقائق التي كنا بحاجة أن يطلع عليها المجتمع الدولى، وساعدنا في ذلك الكلمة التي القاها مندوب إثيوبيا في الأمم المتحدة، السفير تاي أسقي سلاسي، التي أحدثت ما يمكن أن اسميه انقلابا في المواقف الدولية تجاه الأزمة، فمن حيث لا يدرى كشف الدبلوماسي الإثيوبى نوايا بلاده للإضرار بمصالح دولتى المصب "مصر والسودان"، حينما قال في كلمته أمام المجلس أن بلاده ترى أنها تقسم مياه النيل بشكل عادل خاصة بعدما عانى الشعب الإثيوبي من الفقر، فهو حق إثيوبي لتنمية البلاد.
فما قاله المندوب الإثيوبى أكد لجميع من استمع إليه النوايا الإثيوبية في عدم الاهتمام بالأضرار التي ستلحق بدولتى المصب من جراء بناء السد، بل أن أديس ابابا تتعامل بمنطق انه تملك النيل، ومن حقها التصرف في مياهه كما يترأى لها.
ومن واقع رصد لكلمات أعضاء مجلس الأمن سنجد انها في الغالب جاءت متوازنة تتسق مع بداية التدخل، فالجلسة كانت الأولى، كما أن اغلب الأعضاء ليسوا على دراية كاملة بتفاصيل ما حدث بشأن المفاوضات، وبعضهم لديه مصالح دفعته للتوازن فى موقفه حتى لا يخسر أحد، لكن ما أمكن ملاحظته أن كلمة الولايات المتحدة كانت الأفضل وأيضاً محددة الهدف، وهنا يجب الإشارة إلى أن هذا الموقف من جانب واشنطن ما كان ليحدث الا لأنها أطلعت على التفاصيل بعدما أدخلتها مصر كوسيط في الحل، ورأت كيف تماطل إثيوبيا، للهروب من التوقيع على أي اتفاق.
ويهمنا هنا القول أن البيان الذى القاه وزير الخارجية سامح شكرى أمام مجلس الأمن، كان محدد العناصر والاهداف بدقة متناهيه وبعبارات واضحة لا تقبل اللبس أو ازدواجية التفسير، وهو موقف مفيد بالنسبة لنا، إذا أخذنا في الاعتبار الموقف الإثيوبى الذى يراهن دوماً على اللعب بالألفاظ والمعانى، والعودة إلى سياقات الماضى محاولاً إيجاد قاعدة يمكن أن يتكئ عليها لتبرير مواقفه غير المنطقية، وقد رأينا ذلك حينما تحدث المندوب الإثيوبى عن مشروع توشكى، واعتبره قرار مصري أحادى الجانب سيؤدى إلى استهلاك أكبر قدر من المياه، دون أن يعى أن هذا المشروع وغيره من المشروعات التي تقوم مصر بتنفيذها كلها محكومة بحصة مصر التاريخية من مياه النيل، والمقدره بـ55 مليار ونصف المليار متر مكعب سنويا، ولم تطلب مصر حتى الآن زيادة هذه الحصة رغم حقها في ذلك، بعد زيادة أعداد السكان، وغيرها من العوامل التي تعطى مصر الحق في زيادة هذه الحصة، كما أنه ليس من حق إثيوبيا أو غيرها أن تعترض على مشروعات تتم على الاراضى المصرية طالما أنها تتم وفق الحصة القانونية والتاريخية لمصر.
استدعاء الماضى وتلوينه هو الهدف الذى سعى إليه المندوب الإثيوبى، الذى نجح في أن تفقد إثيوبيا كل سبل التعاطف معها، فباتت في موقف لا تحسد عليه، وهو ما يفسر الارتباك الذى ظهر على مندوب أديس أبابا، خلال مشاركته وإلقاء كلمته في جلسة مجلس الامن، فالرجل ألقى كلمة لا تمت للمشكلة بصلة، وإنما راح يراوغ ويبحث عن مبررات يدرك هو قبل غيره أنها واهية ولن يصدقها أحد، فالكلمة بالمعنى الدبلوماسي كانت بلا حجة ولا سند، وكان واضحاً أن إثيوبيا وهى تدرك المآزق التي تتواجد فيه أنها تحاول أبعاد مجلس الامن عن القضية، وجعل قضية السد رهينة بالمفاوضات الثلاثية أو في مرحلة أخيرة داخل أروقة الاتحاد الافريقى، لأنهم يدركون أن المنطق والقانون والقواعد الدولية ليست في صالحهم، وبالتالي فأنهم يبحثون عن منع تدويل الازمة.
محاولة الهروب الإثيوبى من مجلس الامن كان أمر متوقع، لذلك جاء البيان المصرى محدداً لمسئوليات المجلس في التصدي للقضية، باعتباره المحفل الذي أوكل المجتمع الدولي إليه مسؤولية فريدة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين وتلافي تصاعد التوتر، ومنع اندلاع الصراعات، واحتواء الأزمات التي تهدد المساس بالسلام في إقليم يعاني قدراً من الهشاشة، مع الإشارة إلى مسئولية المجلس في التصدي لأي حالة تتخذ فيها إجراءات أحادية يمكن أن تهدر المبادئ التي تأسس عليها النظام الدولي والتي تكرست في ميثاق هذه المنظمة، لذلك كان القرار المصرى باللجوء إلى مجلس الأمن لتجنب المزيد من التصعيد ولضمان ألا تتسبب الإجراءات الأحادية في تقويض فرص التوصل إلى اتفاق حول سد النهضة، أو المساس بحقوق ومصالح دولتي المصب، أو، وهو الأمر الأكثر خطورة، تعريض حياة أكثر من 150 مليون مواطن مصري وسوداني للخطر، على نحو يُفاقم التوتر في منطقة غير مستقرة.
وحتى تتضح الأمور بشكل كبير، ولا تتوه التفاصيل وسط التلاعب بالالفاظ والمسميات التي يهوى البعض الاستناد إليها للهروب من المسئولية، فإن الموقف المصرى أمام مجلس الأمن استند لمجموعة من الحقائق والوقائع التي لا تقبل الشك، من خلال التأكيد على:
- نهر النيل ليس حِكراً على مصر أو ملكية خالصة لأي دولة مشاطئة أخرى لهذا النهر، وإنما هو ميراث مشترك ووديعة مُقدسة لخير شعوبنا جميعاً.
- السد يشكل خطر وجودي يهدد بالافتئات على المصدر الوحيد لحياة أكثر من 100 مليون مصري، لأنه يمكن أن يعرض أمن وبقاء أمة بأسرها للخطر بتهديده لمصدر الحياة الوحيد لها.
- مصر تؤمن بأهمية السد في تحقيق الأهداف التنموية للشعب الاثيوبي، بل تساند هذا الهدف لكن من الضروري إدراك أن مشروعاً بهذا الحجم، والذي يعد أضخم مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية في أفريقيا، يهدد مقدرات ووجود ملايين المصريين والسودانيين.
- ملء وتشغيل سد النهضة بشكل أحادي، وفي غياب اتفاق يحقق المنفعة للجميع ويحمي الأرواح وسُبل العيش لمجتمعات دولتي المصب، سيؤدي إلى تفاقم الواقع الهيدرولوجي الصعب ويعرض الملايين في مصر والسودان للخطر، وسيزيد من التوتر ويمكن أن يثير الأزمات والصراعات التي تهدد الاستقرار في منطقة مضطربة بالفعل.
- مصر تعيش في أكثر مناطق حوض النيل جفافاً كما أن مصر الأكثر شُحاً في المياه على وجه الأرض، إذ يبلغ متوسط نصيب الفرد من المياه حوالي 560 متراً مكعباً سنوياً، الأمر الذي يضع مصر على قائمة الدول التي تعاني من الشُح المائي وفقاً للمعايير الدولية.
- في المقابل فقد حبا الله إخواننا في إثيوبيا بموارد مائية وفيرة تتضمن متوسط أمطار يصل إلى 936 مليار متر مكعب سنوياً من المياه، بالإضافة إلى أحواض 11 نهراً آخر، بعضها تتشارك فيها مع دول مجاورة، وهي الموارد التي توفر فُرصاً لا حصر لها للتعاون والتكامل الإقليمي.
- اتفاق إعلان المبادئ الموقع بين الدول الثلاثة في 23 مارس 2015، وضع التزامات واضحة لا غموض أو لبس في مضمونها، أهمها التزام إثيوبيا القانوني بإجراء دراسات فنية تفصيلية حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية العابرة للحدود للسد، والتزام إثيوبيا السياسي والقانوني بالتوصل إلى اتفاق على القواعد الحاكمة لعمليتي ملء وتشغيل سد النهضة بين الدول الثلاث، والالتزام بعدم المضي في ملء وتشغيل هذا السد إلا بعد التوصل لهذا الاتفاق
- لا توجد ضمانات حقيقية حول أمان السد وسلامته الإنشائية، ما يعني أنه، وعلى ضوء غياب البيانات العلمية والفنية الكافية عن هذا السد، فإن مجتمعات دولتي المصب مهددة بأن تعيش تحت وطأة تهديد لا يُعرف مداه ولا أبعاده.
- إثيوبيا لم تبرم أية اتفاقيات وهى خاضعة للاستعمار بل إن كافة الاتفاقيات ذات الصلة بنهر النيل وقعتها إثيوبيا كدولة مستقلة، منها اتفاق 1902 الذى وقعه إمبراطور الحبشة بإرادة حرة مع بريطانيا وهو اتفاق يحول دون بناء إثيوبيا لمنشآت تؤثر على سريان المياه في مجرى النيل الأزرق، وكذلك الاتفاق الإطاري للتعاون الذي وقعه رئيس وزراء إثيوبيا الراحل ميليس زيناوي مع رئيس مصر سنة 1993 والذي الزمها بعدم إحداث أي ضرر ذي شأن بالمصالح المائية المصرية.
هذه هي المواقف التي تستند لها مصر، وكلها تؤكد أن القاهرة لا تعادى أديس أبابا ولا الشعب الإثيوبى، وإنما تسعى إلى تحقيق الرخاء والتنمية للجميع، لذلك فإن المتوقع أن يكون رد فعل مجلس الأمن هو الاستجابة لمشروع القرار الذى تقدمت به مصر، والذي يتسق مع مخرجات اجتماع هيئة مكتب الاتحاد الأفريقي، حيث يدعو الدول الثلاث للتوصل إلى اتفاق حول سد النهضة في غضون أسبوعين، وعدم اتخاذ إجراءات أحادية فيما يتعلق بسد النهضة، ويؤكد على الدور الحيوي لسكرتير عام الأمم المتحدة، خاصة أن الطلب المصرى المدعم بكل الوثائق يؤكد أننا على حق، وأن إثيوبيا كانت ولا تزال تأخذا من المراوغة أسلوب عمل وحياة، حتى لا تلزم نفسها بأى شيء، في حين ان مصر تعلنها صراحة في كل الغرف المغلقة وفى العلن أيضاً أن الحل الناجع لمسألة سد النهضة يتمثل في التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن، يؤمن المصالح العليا لشعوب الدول الثلاثة، ويحفظ أيضاً مصالح الشعب المصري، لأن الدفاع عن البقاء ليس محض اختيار، إنما هو مسألة حتمية تفرضها طبيعة البشر.