ليس أكثر من بهلوان!
الأحد، 28 يونيو 2020 11:43 ص
قافزا من حلبة السيرك إلى خشبة المسرح في غمضة عين، يقف بطلنا، في شموخ مستعار أمام الجمهور الذي يملأ الجنابات، على أمل أن ينل قدرا من انتباهه، حتى لو كان ما سيحصل عليه في الأخير هو اللعنات، فلم تعد تخيفه تلك اللعنات بعد، إذ لديه القدرة الآن، ليس على تغيير الجمهور وحسب، بل والخروج من أعتى المعارك الضارية منتصرا على كل رافضيه وكارهيه.
حين شرع لأول مرة، وهو لا يزال يعمل بهلونا، في اقتحام خشبة المسرح، راودته أفكار وأحلام سيئة حول قدرته على الصمود أمام هذا الجمهور الكبير، متقلب المزاج حاد الطباع سريع القرارات، لكن تجربته القديمة، ناصعة البياض، في التبرؤ من ماضيه وكل آثام ونذالات ماضيه، منحته الشجاعة ليقف أمام عتبة المسرح الكبير، مقدما أوراقه كبطل مغوار جال كل مسارح مدينته البائسة.
لم يفاجأ كثيرا حين أبلغ باختياره بطلا للمسرح، فلقد كان يعرف مسبقا ماذا يريدون بالضبط في بطلهم الجديد.. وهو الذي لم يفعل غيرها-أي ما يريدون- طوال حياته، إذ لا يمثل ارتداء الأقنعة والشخصيات المختلفة، وإمتاع الجمهور أيضا، أي تحد يذكر، فعلاوة على كونها جواز سفره القديم، هي أيضا مصدر دخله الشرعي الوحيد، لذا بدا واثقا في نفسه حد الانتقاخ وهو يتفحص أفراد فرقته التي تعزف قريبا على رقصاته وإشاراته.
وهو يفكر في رقصته الأولى على خشبة مسرح المدينة الكبير، أمام هذا الجمهور الجديد، الأكثر بذاءة من جمهور سركه القديم، دار في خاطره، أنه سيكون بالتأكيد بين صفوف هذا الجمهور، من شاهده داخل حلبة السرك، يقفز هنا، ويقفز هناك، ويحرك يديه ولسانه كالمجانين لإضحاك الحضور.
لكن، سرعان ما علت ابتسامته الماكرة الخبيثة، حين تذكر قدرته الفائقة على التنصل والانسلاخ والنكران حد الجحود، بل والمزايدة إن لزم الأمر، على كل حركاته ومواقفه وآرائه وأفكاره وأحلامه البائسة، حتى ذاته يستطيع أن ينكرها ويعاديها ويرفضها ويخاصمها خصام الفاجرين.
إن بطلنا المغوار ليس فقط بهلوانا هاربا من تاريخه وتاريخ سيركه العتيق، بل حالما ذكيا وطامحا جشعا، للوصول إلى أهم مسارح المدينة وأكثرها شعبية ونفوذ، ليقف أمام جمهورها الجديد، أنيق الصورة منتفخ الجيوب، فقير العقل والهوى.