لماذا أحببت أبي؟
الخميس، 11 يونيو 2020 09:44 م
فطر الله الأبناء على حب آبائهم، لم يضع المولى في القلوب لهذا الحب شروطاً أو حدوداً، إلا أننا معشر الأطفال – في نظر الآباء – ينسج كل منَّا لهذا الحب قصًةً خاصة به وحده، بطلها رجل يراه الأفضل والأعظم والأحسن في كل شيء، ومع تعاقب السنوات والتحول من الطفولة إلى المراهقة ومن المراهقة إلى الشباب، يصير الحبُ حُبين، حبٌ فطري، وحب لأن بطل القصة أهلٌ لذاك.
أحببتُ أبي، صاحب التركيبة الصعيدية الأزهرية الصوفية، المتمسكة بتلابيب العادات والتقاليد وكل ما هو ينتمي للتراث، ولا يكره في نفس الوقت انفتاحي على كل ما يؤمن هو بضده، ولا يخشى على نفسه من ذلك الغزو الثقافي الداخل على بيته على يد من كان يمني النفس بأن يصبح نسخًةً معممًة مكررًة منه، ومع فشل مساعيه واحدة تلو الأخرى يسلم بالأمر الواقع، ولا يجد من المساندة بكل ما أوتي من قوة بُد.
أحببت أبي الذي عشق الإمام الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر كعشقه لوالده، ولكنه لم يملك أمام ما كنت أكتبه وأنشره من تقارير تعارض الرجل وسياساته وبعض قراراته إلا أن يكظم الغيط، ويبدي معارضة على استحياء، ويقدم نصيحة ممزوجة باللوم، وينقل لي بفرحة تفضحها عينه ردود الفعل داخل الجامعة والمشيخة – حيث مقر عمله - على ما ينشر في «صوت الأمة» من تقارير مذيلة باسمي تتناول شأن الأزهر الشريف.
أحببت أبي الذي لم يكل ولم يمل من أن يسألني : «رايح فين وجاي منين ومسافر ليه ومع مين»، أحببته وهو يعيد تلك الأسئلة من عمر السابعة حتى اقترابي من دخول نادي الثلاثين، وامتلاك من هم في سني وراودهم الزواج عن نفسهم بدل الطفل ثلاثة.
أحببت اللغة العربية بنحوها وصرفها وعروضها، حبًا في أبي، الذي كان لا يمرر على أذنه الكلام ولا يرد عليه إن كان به لعثمة أو خطأ نحوي أو جمع غير صحيح، أو مشتق لا مصدر له.
يوقف الحديث على الغداء ليصحح كلمة لي، ويخرج من نقاش حول كرة القدم ليصحح كلمة لأحد أعمامي، فكانت اللغة بالنسبة له ليست أداة تينه على تحصيل العلم أو كسب الرزق، بل كانت أسلوباً للحياة لا يتخلى عنه ولا يفرط في حقه، مهما كان الأمر مكلفاً.
أحبتت أبي الذي جاهد وعمَّر ما بينه وبين ربه، حتى كافأه الله ووقف بجواره في آخر أيامه، وحرم على لسانه في نوبات الهذيان أي حديثٍ غير القرآن.
لم أعرف لحسن الخاتمة معنى، إلا عندما شاهدته وهو في غير وعيه وطريح فراشه ومكبلة يده بالمحاليل يصلي صلاة كاملة ويرتل القرآن كاملاً في ثلاث ليالٍ بصوتٍ عذب لم أسمعه منه من قبل، حتى حسبته صحيحاً معافى، ويختبر فقط محبته في قلوبنا.
أحببت أبي الحريص على صلة الرحم، لا ينتظر من ذلك جزاءً ولا شكورًا، ولا يمنعه من ذلك تأففنا واعتراضنا على استقباله هذا أو مساعدته ذاك ممن ينسونه كثيراً ولا يتذكرونه إلا وقت حاجتهم إليه، ثم يعودون ليكرووا الأمر بدل المرة مرات، ومن المرة الأولى للأخيرة لم تتغير همته في مد يد العون لهم، ولا يلقي لاعتراضنا بالاً.
أحببت أبي، الذي أثقل علي برحيله تاركاً خلفه سيرة ومسيرة تحتاج فوق العمر عمر لتحقيق جزء منها.