الفتنة الكبرى.. لعنة أصابت الأمة والخوارج نتاج طبيعى للفتنة
الأحد، 24 مايو 2020 07:00 ص
القصاص من قتلة عثمان بن عفان يزيد بحور الدماء بين المسلمين بمقتل عشرات الصحابة والالاف من جيشى على ومعاوية
الخوارج نتاج طبيعى للفتنة.. وتكفيرهم للثلاثة الكبار انتهى إلى مقتل على أبن أبى طالب.. ونجاة معاوية وعمرو أبن العاص
الحسن بن علي أول خليفة في الإسلام يتنازل عن الحكم حقناً لدماء المسلمين.. وأبن العاص حقق مراده بالعودة إلى مصر بعد مقتل "أبن أبى بكر"
استمرت تداعيات الفتنة الكبرى حتى بعد مرور أكثر من 14 قرناً من الزمان، ولم تتوقف بانقضاء حياة أخر الخلفاء الراشدين، الإمام علي بن أبي طالب، والذي قتل ضمن تداعياتها، فالقتل استقر بدار "علي" لفترة من الزمن، حيث تلاه مقتل ابنه الحسين، واستمرت تداعيات حتى نال آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم الابتلاء الكثير والمحن.
وما شهدته الأمة الإسلامية من انقسامات على مدار الزمن أراها أيضاً من تداعيات فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فما بين سنة وسنة، وما بين شيعة وشيعة وتفرقت الأمة على أكثر من بضع وسبعين شعبة.
في الحلقة الماضية من حلقات "الفتنة الكبرى" التي تعرضها "صوت الأمة" خلال شهر رمضان الكريم، وتوقفنا فيها عند قتال علي بن أبي طالب للخوارج، الذين قال فيهم ابن كثير: إن هؤلاء من أغرب بني آدم، فسبحان مَنْ نَوّع خَلْقَهُ كما أراد.
ولم ينتهي الأمر بهزيمتهم، بل تواصلت تداعياته، وكان قتال هؤلاء الخوارج أواخر سنة 37 هـ، أو أوائل سنة 38 هـ، وهو الأصح عن جمهور المؤرخين.
وكان الإمام علي قد حاول استتابة الخوارج، فرجع نحو 4 آلاف من المعركة الأولى، وذهبوا إلى راية الأمان عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أو ذهبوا إلى البلاد القريبة، فلم يرجعوا عن اقتناع منهم بأنهم على الباطل، وإنما كان رجوعهم إما خوفًا، وإما تَقِيَّة، وإما استعدادًا وترتيبًا لقتال آخر في وقت لاحق.
قتال الخوارج يتواصل
ظل الخوارج طوال هذا العام يخرجون على عليٍّ رضي الله عنه واحدًا تلو الآخر، فبعد موقعة "النهروان"، والتي قُتل فيها ستمائة وجُرح أربعمائة خرج عليه رضي الله عنه رجل يُسمّى الحارث بن راشد الناجي مع مجموعة من قومه وردد نفس المقولة: لا حكم إلا لله، وقاتلهم علي رضي الله عنه، وقتل منهم الكثير، كما خرج عليه أيضًا الأشهب بن بشر البجلي، وغيره كثير، وقاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه جميعًا، فكان أمر الخوارج هذا يقلّب الأمور على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الكوفة، ولم يكن جيش علي لينًا سهلًا في يده يسمع له ويطيع كما ينبغي، فكان دائم الانقلاب عليه، وكثير الاعتراض على كثير من الأمور التي يراها عليّ رضي الله عنه مع أنه خير أهل الأرض في ذلك الوقت.
ما علاقة المصريون بالفتنة؟
تورط نفر من ثوار مصر في مقتل الصحابي الجليل عثمان بن عفان، وتورطوا أيضاً في مقتل صحابة آخرين، رغم كونها بعيدة عن ساحات القتال، وخلال تلك الفترة كان يتولى أمرها، الصحابي محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والذي عينه علي بن أبي طالب، لكنه لم يستطع التحكم في زمام الأمور، خاصة بعد "موقعة صفين"، وخروج الخوارج على "علي"، وبدأت تقوى شوكة مَنْ هم على رأي معاوية، وعمرو بن العاص، من وجوب أخذ الثأر من قتلة عثمان قبل مبايعة علي بن أبي طالب، وهذا لسببين:
الأول: أن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان صغير السن، فلم يكن عمره يتجاوز الـ26 سنة عندما تولّى الأمور في مصر، والسبب الثاني: أن تولية محمد بن أبي بكر لأمر مصر أثار حفيظة هؤلاء الذين يرون وجوب قتل من قتل عثمان أولًا قبل المبايعة، وذلك لأن محمد بن أي بكر كان ممن شارك في حصار عثمان بن عفان.
كان محمد بن أبي بكر من أهل فتنة الخروج على عثمان بن عفان، إلا أنه رجع عن الأمر، وتاب بين يدي عثمان رضي الله عنه لمّا ذكّره بأبيه أبي بكر رضي الله عنه، فبكى، وندم، وأخذ يدافع عنه، ويرد عنه أهل الفتنة، لكن القوم غلبوه، ودخلوا على عثمان وقتلوه، وشهدت بذلك السيدة نائلة بنت الفرافصة زوجة عثمان.
مصر تحت ولاية الفاتح
بدأ القوم يفكرون في القيام بثورة على ابن أبي بكر، وازدادت شوكتهم، وتحديداً من أنصار وقوم معاوية، وبدأت يد محمد تضعف على مصر، فلما علم بذلك معاوية بن أبي سفيان، وكانت مصر أقرب إليه منها لعلي بن أبي طالب، أرسل معاوية جيشًا قوامه ستة آلاف للسيطرة على الأمور في مصر بقيادة عمرو بن العاص، الذى كان خبيرًا بمصر قبل ذلك، فقد كان هو أول من فتحها، وتولّى إمارتها فترة طويلة في عهد عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، حتى تولّى الأمور عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وانضم لجيش عمرو بن العاص عشرة آلاف أخرى كانت مع معاوية بن حديج في مصر، فصاروا ستة عشر ألفًا، وتعاونا معًا، واستنفر محمد بن أبي بكر أهل مصر للخروج معه، وكان الكثير منهم من أهل اليمن ممن يسكنون مصر، فأبوا عليه، ورفضوا، فحثهم على الجهاد في سبيل الله فخرج معه على أكبر تقدير ألفان من المسلمين.
وعلم علي بن أبي طالب بهذا الأمر، فأرسل قوة كان فيها الأشتر النخعي لمساندة محمد بن أبي بكر ومن معه، ولما وصل الأشتر إلى مصر وفي منطقة تُسمى (القلزم) استقبله أحد الناس، وأعطاه شربة عسل، فلما شربها مات فقد كانت مسمومة، ويقال إن الذي أشار على الرجل إعطاء الأشتر النخعي تلك الشربة المسمومة هو معاوية، وهذا الرواية فيها نظر وفيها ضعف، وإن صحت ففيها حجة قوية لمعاوية؛ لأنه يستحل دماء كل من شارك في قتل عثمان بن عفان، وما كل هذه الحروب والمعارك إلا لهذا الأمر، وكان الأشتر النخعي ممن حاصر عثمان وممن شجّع الناس على هذا الأمر.
فلما مات الأشتر النخعي ضعفت قوة وبأس فريق محمد بن أبي بكر؛ لأن الأشتر كان صاحب كلمة ورأي، وكان علمًا من أعلام القتال، ولما علم معاوية، وعمرو بن العاص أنه مات بهذه الطريقة قالا: سبحان الله، إن لله جنودًا من عسل.
محاولات الفتح الثاني
كان عمرو بن العاص يريد أن تسير الأمور دون قتال، فأرسل رسالة إلى محمد بن أبي بكر يقول له: إني لا أحب أن يصيبك مني ظفر، فإن الناس قد اجتمعوا في هذه البلاد على خلافك، ورفض أمرك، وندموا على اتباعك، فهم مسلموك إن التقينا، فاخرج منها، فإني لك لمن الناصحين والسلام.
لكن محمد بن أبي بكر لم يسمع لهذه الكلمات، وتقاتل الفريقان، فكان النصر في جانب عمرو بن العاص، وهُزمت القلّة القليلة التي كانت مع محمد بن أبي بكر، وقُتل رضي الله عنه أثناء القتال، وقيل تبِعه بعض أهل الشام بعد القتال، فقتلوه في خِربة قريبة من موقع المعركة التي دارت بين الفريقين، وحزن علي بن أبي طالب على قتله، فقد تربى محمد بن أبي بكر في حجره رضي الله عنه، وتزوّج عليٌّ السيدة أسماء بنت عميس رضي الله عنها بعد وفاة زوجها أبي بكر رضي الله عنه، وانقضاء عدتها، وربّى محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما، كما حزنت السيدة عائشة رضي الله عنها حزنًا شديدًا لقتله وضمّت إليها أولاده لرعايتهم.
بالفعل سيطر عمرو بن العاص على مصر، وأصبح واليًا عليها من قبل معاوية، وأصبحت الشام، ومصر تحت سيطرة معاوية.
توطيد حكم معاوية
لما سيطر معاوية على مصر والشام توطدت أوصال حكمه، وكان جيشه يحبه ومتمسك به، على خلاف علي بن أبي طالب، والذي تآكل جيشه، وفي العراق انقلب القوم على عليّ، يومًا تلو يوم، حتى غضب عليهم غضبًا شديدًا، وخطب فيهم خطبة طويلة قال فيها: المغرور والله من غررتموه، ولَمَن فارقكم فاز بالسهم الأصيب، لا أحرار عند النداء، ولا إخوان ثقة عند النجاة، إنا لله وإنا إليه راجعون، ماذا منيت به منكم، عمي لا تبصرون، وبكم لا تنطقون، وصم لا تسمعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
إرهاصات مقتل الخليفة الرابع
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية: "إنه وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف جأش أهل العراق، هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان؛ أعبدهم، وأزهدهم، وأعلمهم، وأخشاهم لله عز وجل، ومع هذا كله خذلوه حتى كره الحياة، وتمنى الموت، وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن، فكان يكثر أن يقول: ما يحبس أشقاها؟! أي ما الذي يجعل أشقاها ينتظر؟
وأشقاها هو مَنْ يقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فهو رضي الله عنه يريد أن يستريح من عناء هؤلاء القوم الذين يجادلونه، ولا يطيعون له أمرًا، ويتمنّى الموت حتى يفارقهم، وقد ورد في هذا أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد بسنده عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْخَوَارِجِ فِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْجَعْدُ بْنُ بَعْجَةَ، فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ يَا عَلِيُّ، فَإِنَّكَ مَيِّتٌ.
فقال علي رضوان الله عليه: بل مقتول ضربة على هذا تخضب هذه -يعني لحيته من رأْسه- عهد معهود، وقضاء مقضي، وقد خاب من افترى.
هل ينجح الخوارج في قتل الكبار؟
استمر السجال بين علي بن أبي طالب والخوارج مدة كبيرة من الزمن، ففي كل مرة يخرجون فيها عليه، يقتل منهم الكثير، ثم يخرج عليه مرات ومرات، واستمرّت الأوضاع على هذا الاضطراب في العراق، بينما كانت الأوضاع هادئة في الشام، فقد كان أهلها يسمعون، ويطيعون لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
اجتمع ثلاثة من الخوارج وهم عبد الرحمن بن ملجم الكندي، والبرك بن عبد الله التميمي، وعمرو بن بكر التميمي، وتشاوروا فيما ينبغي أن يفعلوه، فهم غير راضين بأمر التحكيم الذى تم بين على بن أبى طالب ومعاوية،، ويكفرون عليًا، ومعاوية، وعمرو بن العاص، ويكفرون كذلك كل من رضي بالتحكيم، وأخذوا يترحمون على إخوانهم الذين قتلوا في "النهروان"، وفي المعارك التي تلتها وقالوا: ماذا نفعل بالبقاء بعدهم، إنهم والله كانوا لا يخافون في الله لومة لائم. ثم قالوا: فلو شرينا أنفسنا من هذه الدنيا، فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم، فأرحنا منهم البلاد، وأخذنا منهم ثأر إخواننا. فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم أمر علي بن أبي طالب. وقال البرك: وأنا أكفيكم معاوية. وقال عمرو بن بكر: وأنا أكفيكم عمرو بن العاص.
تعاهد الثلاثة على قتل الكبار، شريطة ألا ينقض أحدهم العهد، ويكون ذلك في شهر رمضان الكريم، في يوم واحد يقتل، وذلك في السابع عشر من شهر رمضان، فتوجه البرك إلى دمشق حيث معاوية بن أبي سفيان، وتوجه عمرو بن بكر إلى الفسطاط بمصر حيث عمرو بن العاص، وكان عبد الرحمن بن ملجم بالكوفة حيث علي بن أبي طالب.
علي يفارق الدنيا
ترصد عبد الرحمن بن ملجم، لعلي بن أبي طالب في فجر يوم السابع عشر من رمضان، حتى خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من بيته لصلاة الفجر، وأخذ يمرّ على الناس يوقظهم للصلاة، وكان لا يصطحب معه حراسًا، حتى اقترب من المسجد فضربه شبيب بن نجدة ضربة وقع منها على الأرض، لكنه لم يمت منها، فأمسك به ابن ملجم، وضربه بالسيف المسموم على رأسه، فسالت الدماء على لحيته، كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم مشهد قتله قبل ذلك.
ولما فعل ذلك عبد الرحمن بن ملجم قال: يا علي الحكم ليس لك ولا حكم إلا لله، وأخذ يتلو قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ}.
ونادي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: عليكم به، فأمسكوا بعبد الرحمن بن ملجم، وفر شبيب في البلاد، وقدم علي، جعدة بن هبيرة ليصلّى بالناس صلاة الفجر، وحمله الناس إلى بيته، وعلم رضي الله عنه أن هذا السيف مسموم، وأنه ميّت لا محالة، خاصّة أن هذه الضربة وقعت كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى عبد الرحمن بن ملجم، وكان مكتوف الأيدي، فقال له: أي عدو الله ألم أحسن إليك؟، قال: بلى. قال: فما حملك على هذا؟، قال: شحذته -أي السيف- أربعين صباحًا، وسألت الله أن يُقتل به شر خلقه، فقال له علي: والله ما أراك إلا مقتولًا، وقد استجاب الله لك.
ثم قال علي رضي الله عنه: إن مت فاقتلوه، وإن عشت فأنا أعلم ماذا أفعل به، فقال جندب بن عبد الله: يا أمير المؤمنين، إن متَّ نبايع الحسن؟ فقال رضي الله عنه: لا آمركم ولا أنهاكم.
محاولة قتل معاوية وابن العاص
أما معاوية، فقد انتظره البرك بن عبد الله الذي تعهد بقتله في نفس التوقيت، وضربه بالسيف المسموم فتجنّبه معاوية فأصاب فخذه، فحمله الناس إلى بيته، وقبضوا على البرك بن عبد الله، وداوى الناس معاوية ولم يمت من هذه الضربة.
وعمرو بن العاص، فذهب إليه عمرو بن بكر المتعهد بقتله، وانتظر خروجه لصلاة الصبح، ولكنه -سبحان الله- كان مريضًا في هذا اليوم، فعهد بالصلاة إلى نائبه خارجة، فلما خرج إلى الصلاة ظنّه الرجل عمرو بن العاص، فذهب إليه وقتله، فأمسكوا به وقتلوه به، ونجّى الله عمرو بن العاص منه، وقال الناس :أراد عمرًا وأراد الله خارجة، وباتت تقال في الناس إذا أراد أحدهم شيئاً وأراد الله خلافه.
المسلمون بخليفتين
في هذا التوقيت كانت إمارة الشام على وفاق مع معاوية بن أبي سفيان، ولما استشهد علي بن أبي طالب اجتمع أهل العراق، وبايعوا الحسن بن علي، ليكون خليفةً للمسلمين.
جاء قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه وكان تحت إمرته على أذربيجان أربعون ألف مقاتل كلهم قد بايع عليًا على الموت قبل استشهاده، فجاء رضي الله عنه، يقول للحسن رضي الله عنه: امدد يدك نبايعك، فلم يردّ عليه الحسن، ولم يرض بهذا الأمر، ولم يكن يريده؛ لأنه يعلم أن وراءه الدماء الكثيرة، لكن مع إصرار قيس بن سعد بن عبادة قَبِل رضي الله عنه البيعة، وكان هذا يوم 17 رمضان سنة 40 هـ، وهو يوم وفاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
بويع الحسن رضي الله عنه في العراق، وكانت العراق تدير مساحة شاسعة من الدولة الإسلامية وبلاد فارس التي فُتحت، أما أهل الشام فبعد استشهاد علي لم يجدوا بديلًا لخلافة المسلمين غير معاوية، وبذلك أصبح للمسلمين لأول مرة خليفتان، أحدهما في الشام، والآخر في العراق، وكان الحسن بن علي لا يحب القتال، وهو ممن حاول أن يمنع أباه عليًّا رضي الله عنه من الذهاب إلى صفين.
وأصر أهل العراق على قتال أهل الشام وعلى رَدّ الإمارة إلى العراق، وثاروا كعادتهم عليه رضي الله عنه، واجتمعت الألوف المؤلّفة على أمر قتال أهل الشام، والقتال وإن كان له تأويل شرعي، إلا أن فيه مخالفة للإمام، وقد خشِي الحسن من فتنة مخالفة كل هذه الجموع، فخرج رضي الله عنه على رأس جيش لقتال أهل الشام وهو كارهٌ لهذا الأمر، وعلم معاوية بخروجه فخرج له بجيشه، وعند اقتراب الجيشين، يحكي عن ذلك الإمام الحسن البصري: استقبل والله الحسن بن علي، معاوية بن أبي سفيان بكتائب أمثال الجبال. ولما رآهم عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إني لأرى كتائب لا تولّى حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: إن قُتل هؤلاء وهؤلاء من لي بأمور الناس، من لي بضعفتهم، من لي بنسائهم، من لي بصبيانهم؟، وكان رضي الله عنه يكره القتال، وكان كما يقول الإمام ابن تيمية أشد الناس بعدًا عن القتال.
فقرر رضي الله عنه أن يرسل رسولين إلى الحسن بن علي رضي الله عنه للمحاورة والمشاورة، فأرسل إليه عبد الرحمن بن سمرة، وعبد الله بن عامر فذهبا إليه وجلسا معه، وتشاورا حتى تنازل علي الحسن عن الخلافة شريطة ألا يقتل الناس.
وأرسل الحسن رضي الله عنه رسالة إلى معاوية بتنازله عن الخلافة على أن تُحقن دماء المسلمين، وعلى أن ترجع الجيوش دون قتال ودون حرب، وكان ذلك في عام 41 وسمي بعام الجماعة.
ويعد تنازل الحسن بن علي من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري أن أبا بكر كان يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلَم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أُخرى ويقول: "إن ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أَن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".