الداهية عمرو بن العاص.. هزم جيش "علي" سياسياً وتلاعب بأبى موسى الأشعري
الأحد، 17 مايو 2020 07:00 صمحمد الشرقاوي
اختلفت الروايات في آلية التحكيم بعد موقعة صفين، وما دار خلاله بين ابن العاص والأشعرى، ففي الرواية التي ذكرها أبو مخنف لوط بن يحيى، ونقلها الطبري، أن عمرو بن العاص قال: إن هذا الأمر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم، وكان ابن عمر فيه غفلة؛ فقال له ابن الزبير: افطن وانتبه. أي قل شيئًا حتى تأخذ الإمارة، فقال ابن عمر: لا والله لا أرشوا عليها شيئًا أبدًا. أي أنه أبى الإمارة.
فقال أبو موسى الأشعري: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعت بالسيوف، وتشاكت بالرماح، فلا تردنّهم في فتنة مثلها، أو أشد منها، وتحاور أبو موسى أن يقرّ معاوية وحده على الناس، فأبى عليه، ثم حاوره ليكون ابنه عبد الله بن عمرو، هو الخليفة فأبى أيضًا، وطلب أبو موسى من عمرو أن يكون عبد الله بن عمر، هو الخليفة فامتنع عمرو أيضًا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية، وعليًا ويتركا الأمر شورى بين الناس يتفقوا على من يختارونه لأنفسهم.
تضيف الرواية، أنهما جاء إلى المجمع الذي فيه الناس، وكان عمرو بن العاص لا يتقدم بين يدي أبي موسى، بل يقدّمه في كلّ الأمور أدبًا وإجلالًا، فقال له: يا أبا موسى قمْ فأعلم الناس بما اتفقنا عليه، فخطب أبو موسى الناس، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال:أيها الناس، إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة، فلم نر أمرًا أصلح لها، ولا ألم لشعثها من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أن نخلع عليًا ومعاوية، ونترك الأمر شورى، وتستقبل الأمة هذا الأمر، فيولى عليهم من أحبوه، وإني قد خلعت عليًا، ومعاوية ثم تنحى، وزاد البعض: خلعته كما أخلع خاتمي من إصبعي، أو سيفي من عاتقي.
وجاء عمرو بن العاص فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:إن هذا- يقصد أبا موسى الأشعري- قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه، وأثبتُّ معاوية بن أبي سفيان، فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه.
وحاول البعض الرد على تلك الرواية بدعوى أنها شيعية ودخيلة، إلا أن جل ما كتب هو طعن في الراوي وليس بذكر ما حدث، بينما أكدها ابن كثير في البداية والنهاية.
وذكر ابن جرير أن شريح بن هانئ - مقدم جيش علي - وثب على عمرو بن العاص فضربه بالسوط، وقام إليه ابنٌ لعمر فضربه بالسوط، وتفرق الناس في كل وجه إلى بلادهم، فأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية فسلموا عليه بتحية الخلافة.
وأما أبو موسى فاستحيى من علي فذهب إلى مكة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي فأخبراه بما فعل أبو موسى وعمرو، فاستضعفوا رأي أبي موسى وعرفوا أنه لا يوازن عمرو بن العاص.
الفتنة لم تنته بعد
لم تنته الأمور عند ذلك، يضيف ابن كثير في البداية والنهاية، أنه لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على عليّ وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما: زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا: لا حكم إلا لله.فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا. قال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودا وقد قال الله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم}.
وأراد الخوارج قتال علي بن أبي طالب، كل ذلك لأن علياً نزل على حكم دومة الجندل، درجة أن زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك رحمة الله ورضوانه.
تزايد الأمور، أكثر ورأى الخوارج ضرورة تسليم الإمارة لأحد منهم، روى ابن كثير أن سنان بن حمزة الأسدي، قال: يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها.
فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي - وكان من رؤوسهم - فعرضوا عليه الإمارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى، وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى، وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت.
واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شيء أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته؟قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم.
فكتبوا كتابا عاما إلى من هو على مذهبهم ومسلكهم من أهل البصرة وغيرها، وبعثوا به إليه ليوافوهم إلى النهر ليكونوا يدا واحدة على الناس، ثم خرجوا يتسللون وحدانا لئلا يعلم أحد بهم فيمنعوهم من الخروج.
وذهب الباقون إلى ذلك الموضع ووافى إليهم من كانوا كتبوا إليه من أهل البصرة وغيرها، واجتمع الجميع بالنهروان، وصارت لهم شوكة ومنعة، وهم جند مستقلون وفيهم شجاعة، وعندهم أنهم متقربون بذلك.
قال أبو مخنف، عن أبي روق، عن الشعبي: أن عليا لما خرجت الخوارج إلى النهروان، وهرب أبو موسى إلى مكة، ورد ابن عباس إلى البصرة، قام في الناس بالكوفة خطيبا فقال: الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح، والحدثان الجليل الكادح، وأشهد أن لا إله غيره وأن محمدا رسول الله، أما بعد. فإن المعصية تشين وتسوء وتورث الحسرة، وتعقب الندم، وقد كنت أمرتكم في هذين الرجلين وفي هذه الحكومة بأمري، ونحلتكم رأيي، فأبيتم إلا ما أردتم.
عاث الخوارج في الأرض فساداً، درجة أنهم قتلوا من الصحابة وأزواجهم أناسً، فشخي الناس الخروج إلى الشام، من أن يدخل الخوارج في بيوتهم، وأشاروا على علي بأن يبدأ بهؤلاء.فأرسل علي إلى الخوارج رسولا من جهته وهو الحرث بن مرة العبدي.فقال: اخبر لي خبرهم، وأعلم لي أمرهم، واكتب إليّ به على الجلية.فلما قدم عليهم قتلوه ولم ينظروه، فلما بلغ ذلك عليا عزم على الذهاب إليهم أولا قبل أهل الشام.
قتال الخوارج
لما خرج علي بن أبي طالب لقتال الخوارج، حاول لمرات استتابتهم، وبعث إليهم: أن ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم حتى أقتلهم، ثم أنا تارككم وذاهب إلى العرب - يعني أهل الشام - ثم لعل الله أن يقبل بقلوبكم ويردكم إلى خير مما أنتم عليه.فبعثوا إلى علي يقولون: كلنا قتل إخوانكم ونحن مستحلون دماءهم ودماءكم.
وتقدموا فاصطفوا للقتال وتأهبوا للنزال فجعلوا على ميمنتهم زيد بن حصن الطائي السنبسي، وعلى الميسرة شُريح بن أوفى، وعلى خيالتهم حمزة بن سنان، وعلى الرجالة حرقوص بن زهير السعدي.
وأقبلت الخوارج يقولون: لا حكم إلا لله، الرواح الرواح إلى الجنة، فحملوا على الخيالة الذين قدّمهم علي، ففرقوهم حتى أخذت طائفة من الخيالة إلى الميمنة، وأخرى إلى الميسرة، فاستقبلهم الرماة بالنبل.
فرموا وجوههم، وعطفت عليهم الخيالة من الميمنة والميسرة ونهض إليهم الرجال بالرماح والسيوف فأناموا الخوارج فصاروا صرعى تحت سنابك الخيول، وقتل أمراؤهم عبد الله بن وهب، وحرقوص بن زهير، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سخبرة السلمي، قبحهم الله. قالوا: ولم يقتل من أصحاب عليّ إلا سبعة نفر وجعل علي يمشي بين القتلى منهم ويقول: بؤسا لكم! لقد ضركم من غركم.