وتبدو المنظمات الدولية، أحد أطراف اللعبة السياسية بين القوى الدولية، سواء الولايات المتحدة من جانب، أو منافسيها من جانب آخر، فى ظل مساعى كبيرة تخوضها واشنطن، منذ صعود الرئيس دونالد ترامب إلى سدة البيت الأبيض، حيث أطلق تصريحات عدائية تجاه العديد من المنظمات، وعلى رأسها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى والناتو، وغيرها، منذ بزوغ نجمه على الساحة العالمية، عندما كان مرشحا مغمورا للرئاسة فى الولايات المتحدة، بينما اتجه إلى ترجمة مواقفه إلى سياسات صريحة، تمثل خروجا على القواعد الدولية التى أرستها الأمم المتحدة.
ولعل عام 2020 يمثل أهمية كبيرة فى تحديد مستقبل المنظمات الدولية، أو على الأقل طريقة عملها فى المستقبل، بعد إرهاصات شهدتها الأعوام الماضية، كانت تمثل مقدمة لنهاية بعضها، حيث كانت بريطانيا على موعد مع الخروج من الاتحاد الأوروبى رسميا فى يناير الماضى، وهى الخطوة التى يراها قطاع كبير من المحللين بأنها تضع اللبنة الأولى فى نهاية أوروبا الموحدة، بينما جاءت جائحة فيروس كورونا لتطرح العديد من علامات الاستفهام حول منظمة الصحة العالمية، لتضاف الشكوك الجديدة، إلى تساؤلات قديمة ثارت من قبل، حول منظمات أخرى، كاليونيسكو، ومنظمة التجارة العالمية وغيرها.
وهنا كان التحدى الأبرز الذى وضعه ترامب على عاتقه، والذى تمثل فى تقويض الصفقات القديمة التى عقدتها بلاده فى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تزامنا مع تأسيس الأمم المتحدة فى الأربعينات من القرن الماضى، باعتبارها "برلمان الدول"، حيث كانت بمثابة مصدر الشرعية للقيادة الأمريكية للعالم لعقود طويلة من الزمن، مقابل دعم الحلفاء فى أوروبا الغربية، وكذلك كافة الدول التى تلتزم بالقواعد التى أرستها واشنطن، كالعولمة وحرية التجارة وغيرها.
ولكن مع تعاظم الاستفادة بين القوى الأخرى من المزايا الأمريكية، تراجعت مكانة واشنطن، سواء اقتصاديا، فى ظل صعود أوروبا والصين، من جانب، أو سياسيا، عبر تنامى دور الاتحاد الأوروبى والصين وروسيا، على الساحة الدولية على حساب الجانب الأمريكي، وهو ما بدا فى العديد من القضايا، وعلى رأسها الاتفاق النووى الإيراني، والذى لم يتم بشكل ثنائى بين واشنطن وطهران، وإنما شمل دولا أخرى، ربما لعبت ضمنيا دور الضامن لأمريكا، كألمانيا وفرنسا وبريطانيا، باعتبارهم أقرب حلفاء واشنطن من أوروبا، بالإضافة إلى الصين وروسيا باعتبارهما الدول الأقرب لإيران، بالإضافة إلى كونهما أعضاء دائمين فى مجلس الأمن.
على الجانب الأخر، يبقى التخلى الأمريكى عن المنظمات الدولية، التى كانت بمثابة الأداة لشرعنة السياسات التى تتبناها واشنطن لعقود طويلة من الزمن، هى أحد معارك النفوذ بالنسبة لمنافسيها فى المرحلة الراهنة، عبر تغيير دفتها، لصالحها فى المستقبل، وبالتالى القيام بدور أكبر فى صياغة النظام الدولى الجديد، والذى سيتحول من الهيمنة الأمريكية أحادية الجانب على العالم، إلى حقبة من التعددية القطبية، فى المستقبل القريب.