هل يمكن أن تحب مدينة بسبب امرأة؟
الثلاثاء، 28 أبريل 2020 12:58 م
المدينة امرأة على كل حال، لكننا معشر الرجال نحب النساء ونكره المدن، فهل يمكن لأحدهم أن يحب مدينة بسبب امرأة؟ ربما تكون الإجابة هنا.. وربما لا..
«في زهوة العطاء سحائب تجود / ونعمة السماء طلائع الخلود / في غمرة الحياة منائر النجاة.. يا أمهات»
1977، من مذياع قديم في آخر الرواق، ينساب صوت الماجدة، بينما تصرخ امرأة مستغيثة بزوجها، الذي استيقظ فجرا، وأسرع لإحضار الجدة منصورة، لتساعد امرأته التي كانت على وشك أن تضع طفلها الرابع.
حضرت الجدة متأخرا، فوجدت السيدة تتصبب عرقا،وهي تمسح الدم عن صغيرها، الذي فتح عينيه مع أول ضوء للفجر.
«راح الليل والربيع جايي، وانتهى اللي حبسني ب هالعتم الطويل، خلصت المواعيد اللي غلت فينا، وضوت ليالينا، وصرنا نحنا»
1982، طفل في الخامسة يجلس على التراب حافي القدمين، يخط بعصاته القصيرة حروف الأبجدية، بينما الصوت القادم من المذياع لا ينقطع، إلى أن يأتي أحدهم ليزيح الطفل من مكانه، ليضع قالبا من الطوب اللبن هنا وآخر هناك، ليصنع مرمى وهمي كي تبدأ اللعبة.. أولاد يركلون الكرة، وآخرون متحمسون بالتشجيع، فيما يقف الصغير يتابع المشهد المختلط بصوت الماجدة.
« يا ساكن أفكاري وعارف كل سراري صرلي سنين بحبك، وبعده لهلا قلبك.. بحالي مش داري، يا ساكن أفكاري»
1986، داخل فصل دراسي فقير في بناية، كانت بيتا حوله صاحبه إلى مدرسة ابتدائية، يجلس الصغير الذي صار صبيا، وهو يحدق النظر في هناء، زميلة الدراسة وحبه الأول.. يدندن أغنيته مسافرا في سواد شعر محبوبته.
« القلب الأخضراني يا بوي، دبلت فيه الأماني يا عين، ولا قادر طول غيبتكوا يا بوي، يشرب من بحر تاني يا عين»
1988، ما بين صوت حليم والماجدة، يتأرجح صاحبنا، الذي يجلس إلى طبلية خشبية، ممسكا بكراسة مدرسية، ينزع عنها غلافها، ثم يبدأ في صناعة «مجلة» شخصية، يحرر فيها أخبارا من «تأليفه أو توليفه»، مستعينا بصور من جرائد ومجلات يقصها «ديكوبيه» ويلصقها بالصمغ على صفحات مجلته الوليدة.
«ومي من تحت الردم، كزهرة لوز في نيسان، قومي من حزنك قومي، إن الثورة تولد من رحم الأحزان، قومي من تحت.. يا بيروت يا ست الدنيا»1992، جدران المنزل تهتز. ناس تجري إلى غير مقصد بنصف ملابس أو عرايا. بيوت تنهار وأخرى تتشقق حيطانها.. لم يكن صديقنا يعي أن هذا هو الزلزال.. ذلك الذي هز الوجدان قبل أن يهز الأركان.. كل ذلك يأتي مخلوطا بصوت الماجدة وهي تبكي بيروت.. مدينتان وامرأة واحدة وعاشق لصوت ملائكي لا تنقصه القوة.. صوت الثورة الذي يستلهم قوته من رقته..
وهكذا، زرعت هي صوتها في قلب صاحبنا، الذي عشق القاهرة بشموخها وجذورها الضارب في عمق التاريخ، كعشقه لبيروت التي لم يكن قد رأى لها ولو صورة في مجلة، ولم يقرأ عنها سطرا في كتاب، لكنه عبر صوت الماجدة تجول في شوارع «ست الدنيا» المؤدية إلى ساحة النجمة، وصلى الظهر في مسجد محمد الأمين، وعاش في «بيت بيروت» حكايات شاهدة على التاريخ، وهو يلوك البرغل في فمه.