الدفن على الهوية| طبيبة "شبرا البهو" ليست الأولى.. انتماءك يحدد مدفنك والناس يمنحونك صك الدخول
السبت، 18 أبريل 2020 06:00 ممحمد الشرقاوي
صحابة وصالحين ومثقفين منعوا من الدفن في مقابر المسلمين.. عثمان بن عفان دُفن بمقابر اليهود والطبري في بيته وناقد مصري رفضت عائلته دفنه
قبل أيام، استنكر المصريون ما حدث في قرية "شبرا البهو"، وقبلها كانت هناك واقعة أخرى في محافظة البحيرة، وتحديداً في كفر بولس، حيث حاول بعض الأهالي دفن مسن توفي متأثراً بإصابته بفيروس كورونا، مطالبين بضرورة دفنه في أي مقابر أخرى خوفاً من انتشار العدوى بالقرية.
الأمر غريب على مسامع المصريين، فما بين أغلبية فتحت النار على أهالي القرية مستنكرين فعلتهم، وما بين أقلية برروا لهم خوفهم بسبب الفيروس القاتل.
لم يكن كورونا الفيروس الأوحد الذي منع الناس من دفن المتوفيين، بل هناك فيروسات أخرى، فعلت ذلك، درجة أن الدفن كان على أساس الهوية، وبات معتقدك بمثابة صك لدخول مقبرتك، وإن وجدتها.
اليساري لا يدفن في مقابر المسلمين
لا تتعجب، ففي 23 يونيو 2010، توفي الناقد المسرحي فاروق عبدالقادر، وأثناء الذهاب بجثمان المتوفي إلى مقابر عائلته بمنطقة أبو زعبل، صاح شاباً، يقال أنه أحد أساتذة الجامعات: "لا تدفنوه هنا ولا يدفن في مقابر المسلمين".
الحكم الصارم من الدكتور الجامعي كان صعباً على مسامع الواقفين من المثقفين وأصحاب الرأي، خاصة في ظل حالة إجماع من أفراد العائلة، حيث رفضت دفنه بمدفن العائلة؛ لأنه ملحد كافر- من وجهة نظرهم. وهو ما أفتى به شيخ الشاب مدّعي العلم، وحكي الكاتب الصحفي إبراهيم أصلان، في مقال له بجريدة الأهرام، بتاريخ 19 أكتوبر 2010، تحت عنوان: «فاروق عبدالقادر صديقي»، ما حدث ووصف وقت دفن «عبدالقادر» بقوله : «عندما وصلوا إلي المقابر في منطقة أبي زعبل٬ ذهب ابن شقيقه ــ وهو يدرس لا أعرف بأي جامعةــ واستفتي شيخه أن فاروق لم يكن يصلي٬ فأفتي بعدم جواز دفنه في مقبرة واحدة مع المؤمنين من أفراد العائلة٬ حينئذ حملوا الجثمان واتجهوا إلى منطقة زرائب مهجورة٬ بها عدة نتوءات متناثرة من دون شواهد، كل نتوء منها يستوعب جثماناً واحداً٬ وفتحوا واحدة ووضعوا فاروق وأغلقوا عليه وانصرفوا».
لكونك شاعر فلا صلاة عليك
الأمر رغم صعوبته على أصدقاء «فاروق»، إلا أنهم يعلمون تكرار مثل تلك الواقعة قديماً، وتحديداً في وفاة الشاعر السوري نزار قباني، حينما رفض مصلون الصلاة على جسده المسجى بالمركز الإسلامي في لندن، ففي يوم 30 أبريل 1998، وقبل صلاة الجنازة على "نزار" صاح شاب متطرف لا تصلوا عليه، رغم اصطفاف المصلين للصلاة عليه، هاتفاً في الناس: "نزار قباني شاعر لا تشمله رحمة الله، فلا يستحق أن يصلى على جنازته"، في إشارة إلى تطرف فكري بدعوى أن "نزار" هاجم المتشددين لتغيب عقلهم وعدم الأخذ بالأسباب.
وفق الروايات، تدخل الشاعر الراحل غازي القصيبي، سفير السعودية لدى فرنسا –آن ذاك- لتهدئة الجموع، ودفعهم للصلاة على جنازة "قباني" هو وعدد من المثقفين والسفراء العرب حتى نجحوا في النهاية.
نزار قباني كان قد تنبأ بذلك، حين هاجم من انتقد قصائده دون أن يدخل إلى نسيجها، وهو يقول: "أنا لا أؤمن بالنقد الذي لا يعيش في القصيدة، ولا أحب من ينظر لها على أنها أرنب على مائدة التشريح. الناقد الحقيقي هو من يستطيع أن يتقمص الشاعر أو أن يكون شاعراً ثانياً".
ورغم أن نزار قباني وفاروق عبدالقادر لم يعلنا ارتدادهما عن الإسلام، غير أن هناك أناس تسول لهم أنفسهم أن اليساريين والشعراء كفار، وذلك وفق فتاوى متطرفة لشيوخ، وبالتالي قد يبررون ما فعله هؤلاء في الموقفين السابقين.
لن تدفن حتى ولو كنت إمام المفسرين
قديماً وفي عام923 ميلادياً، توفي الإمام محمد بن جرير بن يزيد بن غالب الطبري، والمكنى بـ"أبي جعفر الطبري"، صاحب " جامع البيان في تفسير القرآن"، أو ما يسميه العوام تفسير الطبري، ورغم كون تفسيره من أشهر كتب التفاسير في العالم الإسلامي، عند أهل السنة والجماعة، والمتفرد في "التفسير بالمأثور"، لكونه يذكر الآية من القرآن، ثم يسرد أقوال الصحابة والتابعين في تفسيرها بأسانيدها، ويهتم بالقراءات المختلفة في كل آية ويرجح إحداها، ويسرد الأحاديث النبوية بأسانيدها، والأحكام الفقهية. واعتني به العلماء والباحثون كثيرًا، إلا أن كل ذلك لم يشفع له، ففى923 ميلادياً من الهجرة، حاصر أتباع المذهب الحنبلي في العراق بيت الإمام الطبري، لكونه متهماً بالتشييع ومولاة الرافضة، وظل حبيسًا في بيته يعاني من الاضطهاد الشديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصته، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين، وأنهكه الزمن، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردهم شيء، لا مكانة علمية ولا كبر سن، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظلوا محاصرين لبيته، حتى توفي 923 ميلادياً، وظل الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة.
وبلغ التشدد ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، لكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصلاة عليه حتى إن الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا. وكل ذلك لخلاف في التفاسير كان لا يصب في صالح المتطرفين من الحنابلة. (عزيزي القارئ إذا أردت المزيد ابحث عن محنة الإمام الطبري).
خليفة المسلمين لن يدفن في مقابرهم
في عام 35 من الهجرة، كانت فتنة مقتل الصحابي الجليل عثمان بن عفان، الخليفة الثالث للمسلمين بعد وفاة النبي محمد صلى الله عليه، لم يشفع له أي شيء، لا كونه صحابياً ولا نسيباً للنبي في ابنتيه، ولا محارباً ولا خليفةً ولا تجهيز جيوش المسلمين ونصرتهم، في أن يدفن بجوار الصحابة رضوان الله عليهم.
لم يدفن الصحابي الجليل عثمان في البقيع بجوار صحابة رسول الله، بل دفن بمقابر "اليهود"، والبداية، حينما خرج الثوار عليه مطالبين بعزل ولاة بني أمية، لكنه أرضاهم وردهم إلى بلادهم، وعلى رأسهم المصريين، الذى أرضاهم بتعيين محمد بن أبى بكر الصديق، إلا أن مكيدة مروان ابن الحكم كاتب الخليفة قلبت الموازين، كما أورد الذهبي فى سير أعلام النبلاء، فبعدما غادر المصريون المدينة وجدوا رسول من الخليفة يحمل رسالة إلى والي مصر يأمره بقتل الثوار فور عودتهم، فعادوا إليه مرة أخرى في ثورتهم الثانية، فأنكر علاقته بالكتاب، وأن كتابه كتب بغير علمه، فطالبوه بالتنازل عن الخلافة، فما كان منه إلا أن قال قولته المشهورة: "لا أَنْزِعُ قَمِيصًا أَلْبَسَنِيهِ اللهُ"، وازدادت وتيرة الأحداث بقطع أصابع زوجة عثمان عندما أرادت الدفاع عنه، بل تم قتله وإسالة دمه على المصحف، ولم تتوقف عند هذا الحد، فقد ظل الخليفة الراشد بعد مقتله 3 أيام مطروحا على "كناسة بني فلان"، وهى مكان لوضع القمامة.
بعدها قام 12 عشر رجلا منهم: جدي مالك بن أبي عامر ، وحويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام ، وعبد الله بن الزبير، ومعهم عائشة بنت عثمان أتوا إلى جسده بمصباح فحملوه على باب، وإن رأسه يقول على الباب "طق طق" حتى أتوا به البقيع، فاختلفوا في الصلاة عليه، فصلى عليه حكيم بن حزام أو حويطب بن عبد العزي ثم أرادوا دفنه، ولما أراد الصحابة والتابعين من الوقوف دفنه بالبقيع، ثار رجل من بني مازن فقال: والله لئن دفنتموه مع المسلمين، لأخبرن الناس، فحملوه حتى أتوا به إلى حش كوكب، وهو بستان لرجل يسمى كوكب تدفن فيه اليهود موتاها، فلما وصلوا إلى حش كوكب وأرادت ابنته البكاء عليه، نهرها عبدالله بن الزبير، وقال لها "اسكتي"، حتى لا يخرج الثائرين فيمنعوا دفنه مرة أخرى، فلما دفنوه وسووا عليه التراب قال لها إبن الزبير: "صيحي ما بدا لك أن تصيحي".
وقال الطبراني فى المعجم الكبير والطبري في تاريخ الأمم والملوك: "إن عثمان كان يمر بحش كوكب فيقول: ليدفنن ههنا رجل صالح".