كورونا يعيد صياغة المفاهيم.. «الدين في خدمة الإنسان» وليس العكس
السبت، 04 أبريل 2020 11:00 مهشام السروجى
هل تخيلت ذات يوم أن يخرج شيخ المسلمين أو بابا المسيحيين أو الحبر الأعظم لليهود مُحرمًا الصلاة في دور العبادة، ومطالبًا أتباع ديانته بعدم محاولة الدخول إليها؟.. هذا السؤال كان في اعتقاد البعض دربًا من الخيال لا يحيك خيوطه أمهر كُتاب الدراما، لكنه حدث اليوم بفضل انتشار فيروس كورونا الذي استطاع في أسابيع محدودة إعادة الكثير من المفاهيم، وفي مقدمتها مفهوم العلاقة بين الإنسان والدين.
توارث البشر منذ ظهور الديانات السماوية الثلاثة، مفهوم أن الإنسان خُلق لخدمة الدين، أو للدفاع عن الإله وفرض شرائعه على البشرية، وتغافلوا فرضية كون الدين جاء لخدمة الإنسان من خلال خلق قوانين منظمه للعلاقة بينه وبين مكونات الكون الفسيح، وإشباع الحاجة الروحية التي جبل عليها الإنسان، بخضوعه إلى قوة عليا مسيطرة على مجريات الكون.
في رواية البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق، ولو أن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار"، نص الحديث من الوضوح الكافي بأن الكون كله لا يساوي دم إنسان واحد، لما له من خصوصية مقدسة حين أعلنه الله خليفة له في الأرض، وسخر كل في الكون لخدمته بما في ذلك الدين الذي نزل بهدف الوصول بالإنسان إلى الكمال المعنوي والأخلاقي، كما روي أحمد في صحيحه عن الرسول الكريم قوله " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".
من هذا المنطلق كان الحكم الشرعي باتفاق علماء الأمة المسلمين (سُنة وشيعة- مسيحيين) بأن حرمة روح الإنسان والحفاظ عليها أغلى من إقامة العبادات في دور العبادة، في موقف تاريخي قد لا يعيشه عشرات الأجيال القادمة، الأمر الذي ينهي الجدل عن أن الأديان جميعها جاءت لخدمة الإنسان.
الخطوة الأولي كانت يوم 15 مارس مع بيان هيئة كبار العلماء المصرية برئاسة الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، حين قالت بجواز إيقاف صلوات الجُمع والجماعات حمايةً للناس من فيروس كورونا، واستدلت في حكمها على أن "أعظم مقاصد شريعة الإسلام حفظُ النفوس وحمايتها ووقايتها من كل الأخطار والأضرار، لذلك فإنَّ هيئة كبار العلماء- انطلاقًا من مسؤوليتها الشرعية- تحيط المسؤولين في كافة الأرجاء علمًا بأنه يجوز شرعًا إيقاف الجُمَعِ والجماعات في البلاد؛ خوفًا من تفشِّي الفيروس وانتشاره والفتك بالبلاد والعباد"، موضحة أن الدليل على مشروعيَّة تعطيل صلاة الجمعة والجماعات وإيقافهما؛ تلافيًا لانتشار الوباء: ما روي في الصحيحين: «أن عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ قال لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، فَلاَ تَقُلْ حَيّ عَلَى الصَّلاَةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا، قَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ، فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحَضِ».
أعقب ذلك بأسبوع قرار وزارة الأوقاف بإيقاف إقامة صلاة الجمع والجماعات وغلق جميع المساجد وملحقاتها وجميع الزوايا والمصليات ابتداء من تاريخه ولمدة أسبوعين، والاكتفاء برفع الأذان في المساجد دون الزوايا والمصليات، وهو القرار الذى تم تمديده الأسبوع الماضى، واستندت الأوقاف في قرارها على نفس الحجة الشرعية التي قالت هيئة كبار العلماء، فقالت الأوقاف في بيان لها: «يأتي القرار بناء على ما تقتضيه المصلحة الشرعية والوطنية من ضرورة الحفاظ على النفس كونها من أهم المقاصد الضرورية التي ينبغي الحفاظ عليها، وبناء على الرأي العلمي لوزارة الصحة المصرية ومنظمة الصحة العالمية وسائر المنظمات الصحية بمختلف دول العالم التي تؤكد الخطورة الشديدة للتجمعات في نقل فيروس كورونا المستجد (covid -19) ) وما يشكله ذلك من خطورة داهمه على حياة البشر. وعلى جميع العاملين بالأوقاف التنفيذ الفوري للقرار».
ثم خرجت دار الإفتاء في اليوم التالي 22 مارس ببيان متمم لما سبق، قاطعة بأن الصلاة في المساجد مع انتشار "كورونا" حرام شرعا، مشددة على نفس المقصد الذي يقول أن المحافظة على النفوس من أهم المقاصد الخمسة الكلية، ويجب على المواطنين الامتثال للقرارات الاحتياطية والإجراءات الوقائية التي تتخذها الدولة؛ للحد من انتشار هذا الفيروس الوبائي، مؤكدة أنه يجب شرعا على المواطنين في كل البلدان الالتزامُ بتعليمات الجهات الطبية المسؤولة التي تقضي بإغلاق الأماكن العامة من مؤسسات تعليمية واجتماعية وخدمية، وتقضي بتعليق صلاة الجماعة والجمعة في المساجد في هذه الآونة؛ وذلك للحد من انتشار وباء فيروس كورونا الذي تم إعلانُه وباء عالميا.
وأوضحت الإفتاء في أحدث الفتاوى الخاصة بها أنه قد تقرر في قواعد الشرع أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ ولذلك شرع الإسلام نُظُمَ الوقايةِ من الأمراض والأوبئة المعدية، وأرسى مبادئ الحجر الصحي، وحث على الإجراءات الوقائية، ونهى عن مخالطة المصابين، وحمَّل ولاةَ الأمر مسؤوليةَ الرعية، وخوَّل لهم من أجل تحقيق واجبهم اتخاذَ ما فيه المصلحةُ الدينية والدنيوية، ونهى عن مخالفتهم.
وأضافت أن الفقهاء نصوا على سقوط الجمعة والجماعة عن المجذومين ومن في حكمهم من أصحاب العدوى، وأوجبوا عزلهم عن الناس؛ سدًّا لذريعة الأذى وحسمًا لمادة الضرر، مع أخذهم ثواب الشعيرة الجماعية؛ اعتبارًا بصدق النية، ورعاية لأعذارهم القهرية، ومكافأةً لهم على كف الأذيَّة عن البرية.
لم يقف الأمر عند المؤسسات الدينية الإسلامية، بل لحقه قرار الكنائس بوقف الصلاة مدة أسبوعين في الكنائس وغلق كل الكنائس في بر مصر، حيث قال القس بوليس حليم، المتحدث باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إنه رغم التحذيرات بشأن فيروس كورونا؛ فإن التجمعات بالكنائس كانت ملحوظة، الأمر الذي استدعى المجمع المقدس لاتخاذ القرار بوقف الصلوات والقداسات في الكنائس؛ حفاظًا على صحة المواطنين، مؤكداً أن التجمعات من أخطر الأشياء حاليًّا في انتشار وباء كورونا، مناشدًا الشعب كله الالتزام بالبقاء في المنازل.
وقالت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في بيان منع إقامة أي قداس وإغلاق الكنائس لمدة أسبوعين، بوجوب غلق قاعات العزاء واقتصار أي جنازة على أسرة المتوفى فقط، على أن تقوم كل "إبراشية" بتخصيص كنيسة واحدة للجنازات وتمنع الزيارات إلى جميع أديرة الرهبان والراهبات، مناشدة جموع الأقباط في مصر والخارج عدم التهاون إزاء الأزمة الحاضرة، والالتزام بالإجراءات التي تعلنها السلطات المسؤولة، للمساهمة بفاعلية في تفادي كارثة تلوح في الأفق، يترجمها تزايد أعداد المصابين بالفيروس والمتوفين في العالم، فليس من الحكمة أو الأمانة أن يكون الإنسان سببًا في إصابة الآخرين أو فقد أحد أحبائه.
بالحجة والدليل استند رجال الدين لقراراتهم التي حاول البعض استغلالها لتحقيق مآرب سياسية خاصة به، فظهر ما شاهدناه من تحريض للمسلمين بالخروج على القرار، بل والنزول إلى الشوارع في أوقات الحظر للدعاء، وهو الأمر الذى دفع الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر إلى الخروج الأحد الماضى في رسالة تليفزيونية موجهه للأمة جمعاء، مطالباً خلالها بضرورة أن يتحمل الجميع مسؤوليته في مكافحة «كورونا» وحماية الإنسانية من أخطاره، والالتزام بالتعاليم الصحية والتنظيمية وأن ذلك واجب شرعي يأثم تاركه، وأن اختلاق الشائعات وترويجها وإفقاد الناس الثقة في إجراءات الدولة حرام شرعًا.
وفى مواجهة كل الآراء الفاسدة التي المغلفة بسياسة الانتهاز، قال الشيخ الطيب "وإنني ومن مسؤوليتي في الأزهر الشريف، وانطلاقا من القاعدة الشرعية: "درء المفاسدِ مُقدّم على جلب المصالح"، والقاعدة الأخرى: "يزال الضرر الأكبر بالضرر الأصغر"، انطلاقا من كل ذلك، أؤكد أن الالتزام بالتعاليم الصحية والتنظيمية التي تصدرها الجهات الرسمية المختصة، والتي من بينها الاعتناء بالنظافة الشخصية، والتقيد بعادة التباعُدِ الاجتماعي، والالتزام بالبقاء في البيوت، وتعليق صلوات الجمعة والجماعات قليلة كانت أو كثيرة، مع الالتزام بأداء الصلاة في أوقاتها في المنازل دون تجمع، كل هذه التعاليم وغيرها -سواء في مصر أو في أية دولة أخرى تقام فيها الصلاة- كل ذلك ضرورات شرعية وامتثالها حتم واجب يأثم تاركه، والخروج عليها خروج على قوله تعالى: {وَلَا تُلۡقُوا۟ بِأَیۡدِیكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ} [ البقرة ١٩٥]، ومما يحرم شرعا في هذه الظروف، اختلاق الشائعات وترويجها وبلبلة الناس وترويعهم وإفقادهم الثقة في الإجراءات التي تتخذها الدولة لحماية الوطن والمواطنين".
كما أكدت دار الإفتاء المصرية أن خروج الناس في زمن الوباء في مسيرات جماعية للدعاء الجماعي والتضرع برفع الوباء بما يكون مظنة لزيادة تفشي المرض يعد من المنكرات المحرمات، والبدع في الدين.، وأوضحت الدار في أحدث فتاويها أنه مما يُستأنس به في منع اجتماع الناس وقت الأمراض والأوبئة: ما أخرجه الإمام أحمد في مُسنده، والطبري في تاريخه، ومُحَصَّلُه: أنه لَمَّا وقع الطاعون؛ طاعون عمواس، في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأرض الشام، وكان أميرُها وقتئذٍ أمين الأمة أبا عبيدة بن الجراح، فطُعِنَ -أي: أُصيب بالطاعون- فمات رضي الله عنه، واسْتُخْلِفَ على الناس معاذ بن جبل، فطُعِنَ، فلمَّا مات اسْتُخْلِفَ على الناس عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، فقام في الناس خطيبًا، فقال: «أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فَتَجَبَّلُوا منه في الجبال»...ثم خرج وخرج الناس فَتَفَرَّقُوا عنه ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو فوالله ما كرهه.