أمي.. ويبقى مشهد النهاية
السبت، 21 مارس 2020 11:43 م
كنا نجهز هدية «عيد الأم»،، لكنها آثرت الرحيل، قبل موعد عيدها بخمسة أيام.. هكذا قررت أمي.. أو هكذا قُرِّرَ لها.. رحلت تاركة لنا وصية عظيمة «الحزن لصاحب الحزن»!
في لحظات الألم يبقى مشهد النهاية عالقًا في الذاكرة.. نهاية مسرحية.. فيلم.. مسلسل.. نهاية حياة.. وآهٍ من قسوة مشهد نهاية الحياة.. وحياة مَنْ؟ حياة أمي، التي كان السادس عشر من شهر مارس شاهدًا على اللقاء الأخير بيننا..
كلانا كان علي يقين من لحظة إسدال الستار وذهاب كل منا في طريق نعرفه جيدًا، لكننا- كالعادة- نتفاجأ به، على الرغم أنه لم يتأخر عن موعده..!
«الحزن لصاحب الحزن» كانت مقولة أمي.. أعتقد أنني سمعتها للمرة الأولى عندما توفيت «جدتي»، والدتها.. كنتُ في سنواتي الدراسية الأولى، ولم أكن أعرف معنى الموت.. تسللتُ وفتحت التليفزيون الأبيض والأسود القابع في حجرة بمفرده.. رآني أحد الجيران أو الأقارب، لا اتذكر.. أخبر والدتي على أمل أن يحظى بمكانة عندها، أو ربما لأهداف أخرى..
عندما لمحته أسرعتُ بإغلاق التليفزيون، وحاولت الاختباء من عين أمي بين الجالسين لتقبل العزاء، لكنها- كعادتها- تجيد القنص، فنادت عليَّ بعينيها، فذهبت إليها، فاصطحبتني إلى حجرة الجلوس، وفاجأتني وفاجأت الجميع بتشغيل التليفزيون «NEC» وتعلية صوته إلى المستوى الأخير.. حتى إذا ما هرعت بعض المعزيات لاستطلاع الأمر، فوجئن برد أمي وهي تقول لهن: «منجلكوش في حاجة وحشة.. ويلا بقى عشان عاوزه أعشي العيال»!
أمجنونة كانت أمي، كما قرأتها في عيون المعزيات قبل الرجال؟ لماذا فعلتْ ذلك؟ لماذا تدمع عينيها على والدتها وهي وحيدة والديها؟ لماذا لم تحزن على «ستي» وهي الحنونة العطوفة القوية؟ لماذا لم تبكها مثل كل النساء؟ أليست والدتي سيدة مثل بنات جنسها؟
الإجابة كانت عند أمي: «الحزن لصاحب الحزن»، «ناس بتيجي تعزي عشان الواجب، وناس بتيجي تعزي عشان تجيب في سيرة الناس.. وكل واحد بيروح ويسيب الحزن لصاحب الدار».. جميلة هي وبسيطة هي فلسفة أنثى لم تدخل مدرسة، ولم تنل حظًا من التعليم..!
قوية شرسة كانت أمي، ضعيفة وديعة عندما يتعلق الأمر بأولادها.. هل أكسبها كفاحها في زمهرير ليالي شتاء طوبة ولهيب شمس بؤونة صلابة وقوة وعنادا؟ هل أكسبها عملها في «التجارة» خبرة في اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، مع اعتبارات المكسب والخسارة؟
آهٍ أمي.. أفتقدك.. أفتقد خبزك.. أفتقد قوتك.. أفتقد جرأتك.. أفتقد جبروتك.. نعم جبروتك يا أمي مع الآخرين حين كانوا يستقوون علينا، لكنك كنتِ تجبرينهم على الفرار أو الاعتذار حتى ولو لم يكونوا مخطئين..!
غريبة أنتِ يا أمي.. ما دخلتي معركة إلا وكان الفوز حليفك.. لم تخسري معركة.. والأغرب أن أعداءك الذين دخلوا معكِ في معارك تحولت عداوتهم لك إلى محبة.. فماذا فعلتِ لهم؟ ولماذا ظلوا أوفياء لكِ يسألون عنك بعد وفاتك ويترحمون عليكِ؟
آهـٍ أمي.. أفتقدك كثيرًا.. أحدثك بشيء سيسرك.. بالأمس كنا وزوجتي في سيرتك.. دعوتُ لكِ بالرحمة وهي أيضًا دعتْ لكِ من قلبها.. ذكرتني بموقفٍ فعلتيه معها، ومساندتك لها حتى ولو بالصمت عن توجيه الأسئلة السخيفة التي توجهها الحموات لزوجات أبنائهن... زوجتي تحبك يا أمي كما كنتِ تحبينها..
آهـٍ أمي.. مجدي يذكرني على «الفيس» أن اليوم هو ذكرى رحيلك.. لم يعلم مجدي وباقي أخوتي الثمانية أنكِ جئتني اليوم في منامي؛ لتذكريني بمشهد النهاية.. يوم أن أُذِنَ لك بمقابلة حبيبك الذي كنتِ تدعينه ليحفظنا من كل شر.
أعلم يا أمي أنك تبتسمين الآن وتقولين للموتى- بنفس طريقتك الساخرة: «واحد يهودي هيموت النهارده.. أيمن ابني أكيد سخن وبيخرف.. دا بينسى تاريخ جوازه يبقى افتكر يوم وفاتي إزاي؟ أيمن ابنى ممكن ينسى أي حاجة إلا الشغل»!
ابتسمي يا أمي.. لقد رأيتُ ابتسامتك الآن.. ابتسمي واضحكي كما لم تضحكي من قبل..لكن اذكرينا عند ربك.. قولي لمن يكتب مشاهد النهاية أن يترفق بنا..
وسلام الله عليك في أعلى عليين.