يوسف أيوب يكتب: الفتنة السوشيالية الكبرى
السبت، 29 فبراير 2020 05:07 م
الأسبوع الماضى عاشت مصر ثلاثة أحداث متباينة، الجامع بينها أن الحوار والنقاش حولها كان هو المسيطر على وسائل التواصل الاجتماعى «السوشيال ميديا»، فالكل كان يريد أن يدلى بدلوه، وكأنه العالم ببواطن الأمور، والشاهد فى النهاية أننا كنا أمام مسرحية سوشيالية تتكرر أمامنا كل يوم، دون أن ننتبه لخطورتها.
الواقعة الأولى كانت رياضية، إلى أن تحولت بفعل عوامل عصبية إلى «خناقة شوارع»، فقبل أن يطلق حكم مباراة السوبر المصرى فى استاد الشيخ محمد بن زايد بأبو ظبى بين الأهلى والزمالك صافرته، كانت الأجواء السوشيالية مشحونة، لكن لم يتوقع أحد أن نرى خناقة السوشيال مجسدة على أرضية الاستاد، فما بين كر وفر وإشارات بذيئة وضرب بـ«الشلوت»، كان المشهد مأساويا لا يليق باسم قطبى الكرة المصرية، ولا بالدولة المصرية.
هدأ الجميع فى انتظار عقوبات اللجنة الخماسية التى تدير اتحاد الكرة بشكل مؤقت، ويا ليتها ما عاقبت أحدا، لأن قرارات اللجنة أشعلت فتيل أزمة حاول العقلاء أن يجعلوها مكتومة، فعاد الصراخ والعويل مرة أخرى، وانتهى إلى المشهد الرياضى «الشاذ» الذى كان عليه استاد القاهرة الدولى مساء الاثنين الماضى، حينما اضطر حكم مباراة القمة الليتوانى لإطلاق صافرته معلناً انتهاء المباراة لصالح النادى الأهلى، لعدم وجود الفريق المنافس «الزمالك»، الذى برر غيابه بتعطل أتوبيس اللاعبين فى الشوارع.
وبعيدا عن الحديث عن المبررات التى ساقتها إدارة نادى الزمالك لغيابهم عن المباراة، فإن ما حدث كان شاهدا على تحولات دراماتيكية فى مسار الكرة المصرية، عنوانها أن الإدارة تحولت من الجبلاية إلى السوشيال ميديا، لكنها إدارة بقوانين السوشيال التى تبيح كل الموبقات، بل وتلتمس العذر للجميع.
قبل أن نغلق ملف مباراتى القمة، كانت السوشيال ميديا مسرحا لخناقة أخرى لا تقل حمية عن الأولى، وعنوانها هذه المرة «هل يدخل مجدى يعقوب الجنة؟»، وتحولت وسائل التواصل الاجتماعى إلى ساحة للمبارزة الدينية بين متابعين لا علاقة لهم بنصوص الدين مطلقا، فكانت النتيجة توزيع صكوك الجنة بين كل المتابعين، وكأن الجنة تدار على فيس بوك وتويتر.
وقبل أن نودع الأسبوع السوشيالى الملىء بالقضايا الساخنة، توفى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، لتبدأ المبارزة السوشيالية من جديد بين المترحمين عليه باعتباره أحد قادة حرب أكتوبر المجيدة، وبين آخرين عميت عقولهم قبل عيونهم، فكانوا أشد تطرفا من ذلك الشيخ الذى أفتى بأن «يعقوب» لن يطأ الجنة لأنه مسيحى.
الشاهد فى كل ذلك أن السوشيال ميديا باتت أسلوب حياة للمصريين، وهى المحرك الرئيسى لهم تجاه الكثير من القضايا، فمع وفاة مبارك صباح الثلاثاء نسى الجميع ما حدث مساء الاثنين فى مباراة القمة التى غاب عنها أحد القطبين، وقبلها نسى الجميع ما حدث مع مجدى يعقوب، وتحولنا جميعا إلى ما يشبه القطيع، نسير خلف السوشيال ميديا فى الطريق الذى تختاره لنا.
أصبحنا عبيد التريند والجرى خلف الأعلى بحثا على فيس بوك أو تويتر.. نتحرك دون أن ندرى أننا نساق دون إرادة كاملة منا.
الشاهد أن السوشيال ميديا باتت «أفيونة» المصريين، وصارت بمثابة الإدمان، ومع مرور الأيام تحولنا ربما دون أن ندرى إلى وقود فى حرب الفتنة التى تعتبر مواقع التواصل الاجتماعى الساحة الأبرز لها اليوم، فالخلاف بين الجماهير هدفه الأساسى أن تحدث فتنة، لكنها ليست فتنة كروية وإنما فتنة شعبية.. وهو نفس ما حدث فى قضية الدكتور مجدى يعقوب، وأيضا فى وفاة مبارك.
إنها الفتنة الكبرى الذى طالما حذرنا منها.. فتنة جعلت أصحاب العقول الرشيدة يخشون قول الحق لأنهم لا يريدون أن يكون رأيهم محل لوم أو تعليق لاذع ورافض لمبدأ الحياد.
نعم غاب الحياد ولم يعد له وجود، والسبب أن لعنة اللايك والشير هى المتحكمة فى رغباتنا قبل أن يحكمنا الضمير.. هذه اللعنة جعلت كثيرين يسيرون مع القطيع دون أن يدركوا أنهم جزء من وقود الفتنة، التى يراد لها أن تقع بين المصريين.
نعم هناك بيننا من لا يصدق حتى اليوم منطق «حروب الجيلين الرابع والخامس»، والتى تستخدم فيها وسائل التواصل الاجتماعى لتدمير الأوطان، عبر نشر شائعات وإثارة الفتن والضغائن، لذلك من واجب الإعلام وكل المهتمين بالشأن العام ألا يملوا من ذكر مخاطر هذه النوعية من الحروب، والهدف ليس بث الخوف والكراهية لدى المصريين من وسائل التواصل الاجتماعى، وإنما أن يكونوا منتبهين للخطر، وأن يعوا جيدا أن لعنة اللايك والشير لا تضاهيها لعنة فقد الوطن، إذا ما اشتعلت الفتنة، وانتقلت من الفضاء الإلكترونى إلى أرض الواقع.
كثير من الدول حوّلت جزءا من مخصصاتها المالية لتمويل مثل هذه الحروب التى لا تكلفها عناء المواجهة المباشرة، فالأمر لا يخلو من كونه مجموعة لجان إلكترونية تتابع قضايا بعينها فى دول معينة، وتعمل على إذكاء الفتنة والخلاف بين مستخدمى السوشيال ميديا فى هذه البلدة، وفى نفس الوقت بث مجموعة من الشائعات والعمل على ترويجها حتى يعتبرها المتابعون حقيقة مؤكدة.
هذه هى الاستراتيجية التى تقوم عليها حروب الفتنة السوشيالية، والتى كانت ولا تزال مصر معرضة لها.. كانت الشائعات وقودها الأساسى، لكن لأن هذا الوقود فشل فى تحقيق مبتغاه، فكان البديل البحث عن المتناقضات فى المجتمع المصرى واللعب عليها، ولأن قضية «الفتنة الطائفية» بين المسلمين والمسيحيين باتت «موضة قديمة» لدى محركى اللجان الإلكترونية، جرى استدعاء متناقضات أخرى، وكانت الكرة والرياضة فى عمومها هى الهدف الجديد.
نعم هناك أخطاء كارثية وقع فيها مسئولون عن الكرة والرياضة فى مصر، لكن مثل هذه الأخطاء متكررة، وكان من الممكن احتواؤها وفق أطر قانونية وتنظيمية كفيلة بوضع حد لمثل هذه الكوارث، لكن الذى جرى أن السوشيال ميديا للأسف الشديد كان لها تدخل سلبى، فبات الاحتواء صعب المنال، ويوم وراء الآخر كبرت كرة الثلج، ووصل بنا الحال إلى أن الأمور أصبحت خارج السيطرة.
الهدف مما ذكرته أعلاه ليس «شيطنة السوشيال ميديا»، لكن أن نكون منتبهين ومدركين جيدا لما يدور حولنا، وألا نكون عبيد اللايك والشير، فوسائل التواصل الاجتماعى لها فوائد كثيرة وعظيمة أيضا، لكن فى نفس الوقت هى سلاح ذو حدين، فكما لها فوائد لها أيضا مخاطر، ومخاطرها فى استخدامها من قبل آخرين فى تحريك الرأى العام فى الاتجاه الذى يريدونه، وهو ما أقصده بفكرة «القطيع» التى أخشى أن نكون جزءا منه.