إن جالك الموت يا زكية
السبت، 01 فبراير 2020 01:59 م
لا أعرف إذا كان الموتى يتألمون أم لا، لكنني أعرف جيدا كيف يتألم الأحياء لموت عزيز، وتجربتي بعد وفاة والدتي مع المعاناة والألم هي مرجعي في هذا الأمر، فمنذ رحلت وأنا مشتت ويرفض عقلي قبول فكرة رحيلها، لهذا أجدني في كل يوم انظر إلى هاتفي منتظرا ظهور رقمها على الشاشة كعادتها كل صباح لتدعو لي كما كان يطيب لها ولنفسي «يجعل في وشك جوهرة وحنكك سكرة».
وعقب رحيلها قلت لنفسي إن الموت قد أسقط هيبته بنفسه حين اختطفها مني، فليس بعد موت الأم موت، لكنني اكتشفت غير ذلك في أكثر من موضع وحادث، فما زال للموت رهبة تحفر في القلوب حفرا من النار، وقد تيقنت من ذلك بعد حادث قطار محطة مصر.
ففي صباح 27 فبراير من العام الماضي، اصطدم جرار قطار بالحاجز الخرساني لنهاية أحد أرصفة محطة رمسيس، مخلفا انفجارا وحريقا هائلا أودى بحياة 21 شخصًا وإصابة 52 آخرين، وفق ما أعلن رسميا.
ولن أتحدث كثيرا عن مثل هذه المشاهد المرعبة، والتي اعتصرت قلوبنا وأدمتها، وقلبت علينا المواجع..
وبالأمس كنت كغيري من العاملين بالصحافة على موعد جديد مع «الوجع»، بوفاة الزملاء زكية هداية وأحمد المنسي ورحاب بدر، في تتابع أحزننا جميعا وربما ما ضاعف الوجع هو أن الموت اختطفهم في «عز شبابهم» ليُدفنوا بأيدي آبائهم وأمهاتهم، وكأننا في حرب.. «في زمن السلم يدفن الأبناء آباءهم وفي زمن الحرب يدفن الآباء أبناءهم».
صحيح أن الموت يأتي بغتة في أي وقت وفي أي مكان، ولا يفرق بين كبير أو صغير، إلا أنه يكون أشد قسوة حين يختطف شبابا في عمر الزهور لم يحققوا أحلامهم بعد..
شخصيا لم يكن لي سابق معرفة بالراحلين أحمد ورحاب، رحمهما الله وألهم ذويهما ومحبيهما الصبر، لكنني كنت زميلا للراحلة زكية لسنوات عدة في إحدى المؤسسات الصحفية، وأشهد الله أنني لم أجد منها إلا كل طيب..
ماتت زكية بالأمس وفقا للأوراق الرسمية، لكنها وغيرها من شباب الصحفيين ماتوا قبل ذلك بسنين حين خاب أملهم في مهنة ظنوا أنها ستمنحهم - بعدالة - مقابل جهدهم وموهبتهم دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى، غير أنهم وجدوا الأرض غير صالحة لنموا شجرة الأحلام والطموحات، وظلوا يجاهدون من أجل لقمة العيش.. فتحول الهدف من «ملامسة السحاب» وتحقيق الذات إلى البحث عن لقمة عيش تبقيهم على قيد الحياة..
أقول ذلك لأن شبابا حول الثلاثين من العمر يرقصون رقصة الفراشة والنار، بحثا عن «الأمان» في مؤسسة صحفية تستوعب طاقاتهم وتمنحهم مقابلا مناسبا من المال ويشعرون فيها بالاستقرار، غير خائفين من «فصل» أو تعسف وربما «طرد»، لكنهم يجدون أنفسهم يتنقلون اضطرارا ما بين هذا المكان وذاك كما الفراشة التي تحترق في كل مرة تحط فيها على «النار» ومع ذلك تواصل الطيران..
قبل سنوات أعدت إحدى القنوات الفضائية تقريرا عن «المغتربات»، وأطلت من خلاله زكية لتحكي تجربتها كصحفية شابة أتت من طنطا مدعومة بدعوات وتشجيع والدتها، إلى القاهرة بحثا عن موضع قدم في بلاط «صاحبة الجلالة».
خلال اللقاء تحدثت الراحلة عن طموحها ومستقبلها، وأوصت الفتيات بألا يركن إلى فكرة «الفارس» و«الحصان الأبيض»، وأن عليهن أن يحققن طموحهن بأنفسهن دون انتظار ذلك الساحر الذي سيأتي ليحول حياة حبيبته إلى جنة.. «فلتصنعي جنتك بيديك» بالعلم والسعي والعمل.
لآخر يوم في عمرها ظلت زكية تسعى لتحقيق أحلامها، في عالم قاس لا يعرف الرحمة.. والآن هي إلى جوار رب رحيم، بعدما رحلت وتركتنا نواصل الحلم..
لزكية ندعوا بالرحمة ونحن نؤمن بأن الله أرحم الراحمين، ولوالدتها ندعوا بأن يخفف عنها ويلهمها الصبر..
وكذا ندعو لأهل وأحباب أحمد ورحاب، أن يمنحهم الله الصبر على فراق الأبناء، الذين رحلوا في عز شبابهم..
و«إن جالك الموت يا زكية ابتسمي بين إيديه، وقوليله أنا رايحة لرب رحيم، وادعيلنا وادعي لأمك وكل حبايبك بالصبر والقوة».