محو الأمية واستصلاح الإنسان المصري
الخميس، 30 يناير 2020 10:08 ص
بالتزامن مع جملة المشروعات القومية التي يعلن عنها، ويدشنها، ويفتتحها الرئيس عبد الفتاح السيسي، كم كنت أتمنى أن يعلن ويتبنى سيادته حملة قومية «جادة» للقضاء على الأمية في مصر، واعتبارها الأكثر خطورة على أمننا القومي.. فهذه الكارثة- الأمية- توارثناها منذ قرون، وفشلت الأنظمة المتعاقبة في إنهائها، مكتفية بالتعامل الهامشي معها، وبإطلاق شعارات يحسبها الجاهل ماء حتى إذا اقترب من كنهها لم يجدها شيئًا.
في أكتوبر 2016، كانت حكومة المهندس شريف إسماعيل أعلنت البدء في استصلاح وزراعة مليون ونصف المليون فدان، كمرحلة أولى من مشروع الأربعة ملايين فدان الذي أطلقه الرئيس السيسي.. والمؤكد أن مشروعًا كهذا سيحدث تنمية شاملة بالمناطق المستصلحة خارج الوادي والدلتا، وإقامة مجتمعات زراعية صناعية متكاملة، فضلًا عن توفير الآلاف من فرص العمل.
لكن الحكمة الرائعة تقول: «ابنِ ابنك ولا تبني لابنك»، أي أن «بناء الإنسان»، وتربيته، وتعليمه، وتثقيفه، والاستثمار في عقله أفضل من بناء العقارات له، وتأمين مستقبله بالأموال والثروات العينية فقط، دون تأهيله إنسانيًا وتعليميًا.. فماذا يفعل السفيه بالمال؟ وهل يدرك الجاهل قيمة ما في يده؟
وإذا كانت العقود الماضية شهدت «تجريفًا» للأراضي الزراعية، بالبناء العشوائي عليها، فإن العقول المصرية عانت هذا التجريف أيضًا، فأنتجت لنا أجيالًا مشوهة، فكريًا، وثقافيًا، وسلوكيًا وأخلاقيًا.. تزامنًا مع هروب «العقول المبدعة» خارج البلاد.
عندما أراد الصينيون القدماء، أن يعيشوا في أمان؛ بنوا سور الصين العظيم، واعتقدوا أن أحدًا لن يستطيع تسلقه، لعلوه وارتفاعه، ولكن خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور، تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات، وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه، بل كانوا في كل مرة يدفعون للحارس «رشوة» ثم يدخلون عبر الباب! لقد انشغل الصينيون بـ«بناء السور» الحجري، ونسوا بناء الحارس «الإنسان»، فكانت الطامة الكبرى التي حلت على بلادهم!
في سبتمبر 2019، أصدر الجهـاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء بيانًا أشار فيه إلى ارتفاع عدد الأميين إلى 18.4 مليون فرد عام 2017، بعد أن سجل 17.0 مليون فرد عام 2006.. وبلغ معدل الأمية للذكور 21.1% مقابل 30.8% للإناث، وبلغ معدل الأمية بالريف 32.2%، مقابل 17.7% بالحضر.. معنى ذلك أن لدينا أكثر من 18 مليون «أمي» لا يعرفون القراءة والكتابة. هذا فضلًا عن «الأمية المقنعة» لبعض حملة المؤهلات المتوسطة (الدبلومات الفنية)، وفوق المتوسطة (المعاهد)، والعليا (الكليات)، والذين يحصلون على الشهادة وهم لا يجيدون القراءة ويخطئون في أبسط قواعد الكتابة!
إن الأمية هي الوجه المرادف للتخلف، كما العلم مرادف التقدم.. وليس مقصودًا بالأمية «عدم معرفة القراءة والكتابة»، بل نقصد التعريف الذي اعتمدته الأمم المتحدة عام 1971، ونصه: (يعتبر غير أميٍّ كل شخص اكتسب المعلومات والقدرات الضروريّة لمُمارسة جميع النّشاطات التي تكون فيها معرفة حروف اللّغة ضروريّةً لكي يلعب دوره بفعاليّة في جماعته، ويُحقّق في تعلُّم القراءة والكتابة والحساب نتائجَ تُمكِّنه من الارتقاء بنفسه وبالجماعة التي ينتمي إليها، كما تسمح له بالمُشاركة النّاشطة في حياة بلده).
دولة اليابان- التي تعيش معنا على نفس الكوكب، لكنها تسبقنا بسنين ضوئية- خاضت حروبًا مع جيرانها الصين وروسيا القيصرية، ثم الحرب العالمية الأولى، ونالت هزيمة مدمرة في الحرب العالمية الثانية، بسقوط قنبلتين ذريتين عليها.. وانهارت فيها مقومات المدنية والحضارة. ولكنها حققت المعجزة، ونهضت من تحت الصفر.. وخلال عقدين أصبحت دولة صناعية كبرى، وثاني أكبر قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية.. وكانت كلمتا السر وراء المعجزة اليابانية هما «الإنسان والتعليم»؛ فاليابان قضت على الأمية بنسبة 100% منذ مطلع القرن العشرين! واهتمت ببناء الإنسان وتأهيله أخلاقيًا، وثقافيًا وتعليميًا، ما جعلها قادرة على استعادة زمام الأمور بعد كل كارثة.
المؤسف والمخجل حقًا، أننا ونحن في العام 2020، وفي عصر التقدم المذهل في مجال التكنولوجيا ووسائل الاتصال، والتقتيات الحديثة، أن نتكلم عن بديهيات، عن مسلمات، عن أمور ما كان يجيب علينا الحديث عنها الآن، مثل «محو الأمية».. والأشد أسفًا أن دولًا عربية أقل منا في أشياء كثيرة تتقدم علينا في مجال التعليم مثل ليبيا وسوريا.. بل إن فلسطين «المحتلة» تسبقنا بمراحل، ونسبة الأمية فيها لا تتجاوز 2 بالمئة، وفقًا لتقرير منظمة اليونسكو في 2017.
في العام 2014، أعلن وزير التربية والتعليم- آنذاك- الدكتور محمود أبو النصر، أن «هذا العام سيشهد حلولًا ناجزة لمحو الأمية في البلاد، التي سجلت 30% من عدد السكان»، لافتًا إلى أن 11% من الأطفال خارج التعليم ما بين «متسرب أو منقطع»! وفي نفس العام أيضًا، وتحديدًا في سبتمبر 2014، قال اللواء أبو بكر الجندي، رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء: «إن نسبة الأمية في مصر انخفضت إلى 26% من عدد السكان عام 2013، مقارنة بـ29% عام 2006، وإن التعداد السابق على 2006 كانت نسبة الأمية فيه 39%، والتعداد الأسبق 49%»!
معنى ذلك أنه لا يوجد رقم محدد لعدد «الأميين» في بلد وصل تعداد سكانه إلى 100 مليون نسمة، لكن على أقل تقدير لدينا 18.4 مليون أمي، وهو رقم مهول- بلا شك- وبحاجة سريعة إلى خطة قومية للقضاء عليه، أو الحد السريع منه، وهذا أضعف الإيمان.
والمتابع لأحوال «التعليم» عندنا- إن كان لدينا تعليم من الأساس- سيدرك أننا نسير بقوة «نحو الأمية»، لا إلى «محوها»، ويكفينا فخرًا أننا أخرجنا أجيالًا من الطلاب والمدرسين، ووزراء ومحافظين، وصحفيين وإعلاميين، لا يجيدون قراءة جملة بسيطة، حتى ولو كانت بالتشكيل، ويخطئون في كتابة أبسط الكلمات، فيكتبون «لكن، وذلك، وهذا، وأولئك، ولا سيما..» هكذا «لاكن، وذالك، وهاذا، وأولائك، ولاسيمة».. فكيف لهؤلاء أن يقودوا قاطرة التنمية؟ وكيف نخوض بهم معركة الوعي ومواجهة أهل الشر؟!
ولعل هذا ما فطن إليه نبي الإسلام محمد- صلى الله عليه وسلم- فعلى الرغم من أنه كان «أميًّا»، إلا أنه أدرك أهمية التعليم في نشر الدين الوليد، وفي معركة الوعي وبناء الإنسان المسلم المتسلح بالعلم.. ولعل هذا ما دفعه لأن يطلب من أسرى المشركين في غزوة بدر، الذين لم يكونوا يمتلكون مالًا لدفع الفدية، أن يعلموا أبناء المسلمين القراءة والكتابة.
لقد حدد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أسبابًا أربعة رئيسية لعدم التحاق الأميين بالتعليم، هي: عدم رغبة الأسرة بنسبة 34.2%. الظروف المادية بنسبة 27%. عدم رغبة الفرد ونسبتها 23.2%. ثم صعوبة الوصول للمدرسة بنسبة 8%.. لكني أرى أن السبب الجوهري لارتفاع معدلات الأمية عندنا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمستوى الاقتصادي وتفشي الفقر في الأسرة، وغياب الاستراتيجيات التعليمية السليمة، وتوفير التعليم ذاته..
لن نسهب في مناقشة أسباب تفشي الجهل والأمية في بلادنا- رغم أهميتها- ولن نسرد الآثار الاجتماعية والثقافية لهذه الآفة الخطيرة المدمرة، فمعظمنا- إن لم نكن كلنا- ندرك آثارها السلبية على الفرد والمجتمع، وأنها أهم أسباب عرقلة جهود التنمية في المجالات كافة.
ما نود التأكيد عليه، إذا كان استصلاح الأراضي الصحراء مهمًا، فإن الأكثر أهمية- من وجهة نظري المتواضعة- هو استصلاح الإنسان المصري، وتعبيد العقول «الوعرة»، والاستثمار فيها، وإعادة زراعتها بالأفكار الإبداعية، والمناهج الابتكارية المتطورة، إذا كنا نريد حقًا منافسة أشقائنا العرب، ونجد لأنفسنا مكانًا بين دول العالم المتقدمة.. بدلًا من هذه «المسوخ» المنتشرة في الهيئات والمؤسسات!