نص كلمة رئيس جامعة القاهرة التي أغضبت شيخ الأزهر
الثلاثاء، 28 يناير 2020 02:37 مأحمد سامي
اختلاف وتجادل ومحاولة للوصول لصيغة جديدة لتطوير الخطاب الديني، فما بين رفض وانتقاد نشبت مناوشات فكرية بين شيخ الأزهر أحمد الطيب، ومحمد عثمان الخشت، رئيس جامعة القاهرة، على الفكرة الأساسية في كيفية بناء خطابا دينيا جديدا، يتناسب وعقلية المجتمع المختلف وفقا لرؤية الخشت، أو كيفية بناءه على ما هو قائم ونطور فيه كما فعل التراثيين في السابق وفقا لرؤية شيخ الأزهر، والذي وجد أن التجديد لا يعني هدم ما هو قديم لأنه يعد انكار لمعروف السابق فالتجديد يكون بذأت البيت ولكن مع تطويره وفقا لمواصفات العصر دون هدمه.
وارتكزت كلمة رئيس جامعة القاهرة باليوم الثاني لجلسات مؤتمر الأزهر لتجديد الفكر الإسلامي، علي ضرورة التحرر من الفكر القديم وأنه لابد من تأسيس خطاب ديني من نوع مختلف، وليس تجديد الخطاب الديني التقليدي، فتجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر ديني جديد مضيفًا: «لا أؤمن بإصلاح العقل الديني القديم؛ لأن العقل الديني القديم تشكل في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية ومعرفية طرحتها العصور القديمة، والأبنية العقلية القديمة تلاءم عصورها ولا تلائم عصرنا؛ فالزمان غير الزمان والمكان غير المكان، والناس غير الناس، والتحديات القديمة غير التحديات الجديدة».
وأضاف الخشت، إنني أحب بيت أبي القديم لكنني لا أحب أن أعيش فيه، وأقدر تراثنا القديم لكنني أحب (أنا وغيري) أن نصنع تراثا جديدا نعيش فيه؛ فهم رجال ونحن رجال، وهم أصحاب عقول ونحن أصحاب عقول. إنني وغيري كثيرون لا نحب أن نكون في زمرة القائلين (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، مما دفع شيخ الأزهر لطلب التعليق قائلا: «قلت كرئيس للجامعة إن التجديد هو مثل أن تُجدد منزل والدك دون أن تسكن فيه»، متابعا: «هذا ليس تجديدًا هذا إهمال وترك وإعلان الفُرقة لبيت الوالد»، موضحا: «التجديد في بيت الوالد يكون في بيته، ولكن أعيده مرة أخرى بما يناسب أنماط العصر».
وذكر رئيس جامعة القاهرة في كلمته، لا تكوين لعقل ديني جديد بدون تغيير طرق التفكير وتجديد علم أصول الدين يشمل تطوير العقل جوانب خمسة حاكمة له تطويرا عقلانيا نقديا بطريقة منظمة، وهي: أولا.. تطوير العقل النظري، ثانيا.. تطوير العقل الديني، ثالثا.. تحرير ملكة الوجدان، رابعا.. إصلاح طريقة عمل الطاقة الغريزية، خامسا.. تطوير العقل العملي.
ومن أهم الشروط القبلية لتكوين عقل ديني جديد:
أولا- إصلاح طريقة التفكير: لأن العقول التي ضللتها الأهواء عن البرهان والحجة العقلية، لا يمكن أن تستقيم دون إصلاح ماكينة تفكيرها قبل أي شيء. إن طريقة التفكير هي المنهج، وكما قلت في موضع آخر: «المنهج عبارة عن الإجراءات التي تتبعها في تفكيرك وخطوات الاستدلال التي تسير عليها، ففي عملية الاستدلال توجد خطوات، حيث تسلمك الخطوة الأولى للخطوة التالية، فمن الممكن أن تعرض الفكرة الإيجابية على شخص يفكر بطريقة سليمة، وتعرض الفكرة الإيجابية نفسها في الوقت ذاته على إرهابي من داعش، فهل سوف يتعامل الاثنان بالطريقة العقلية نفسها مع الفكرة ذاتها؟ بطبيعة الحال لا.
فالفكرة الإيجابية التي يستقبلها صاحب طريقة التفكير السليمة سوف تجعله يصل إلى نتائج وأفكار تنمية، وتطور، ومشاركة اجتماعية، وروح الفريق الواحد...إلخ. بينما الفكرة الإيجابية التي يستقبلها العقل المتطرف صاحب طريقة التفكير الخاطئة، سوف يترجمها هذا العقل المتطرف بطريقة باطلة، وسوف يصل لنتائج مختلفة وأفكار دموية، وحرق، وقتل، أي أنه من الممكن أن تكون محطة البث واحدة وقوية وإيجابية ويبقى الخطر كامنًا في كنه عقل من يستقبل هذه الأفكار، وطريقة تفكيره إزاءها! فطريقة استقبال العقل للأفكار وترجمتها بالاستنتاج والاستدلال، هي المحك وهي الفاصل في النتائج وطبيعتها».
إذن لابد - أولًا- من فتح العقول المغلقة وتغيير طريقة المتعصبين في التفكير. فلن تستطيع أن تجعل إنسانا متسامحا وهو يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة ويجزم بأن الآخرين على باطل، ولن تستطيع بث أفكار عقل مفتوح في عقل مغلق. فالعقل المغلق ليس مجهزا لاستقبالها مثلما أن التلفاز الأبيض والأسود ليس مجهزا لاستقبال محطات البث الفضائي HD .
ثانيا- رؤية العالم World Viewوأضاف الخشت، في كلمته "لن تستطيع أن تجعل طائفة متسامحة وهي تعتقد أن الكون يقوم على لون واحد وليس ألوانا متعددة، ولن تستطيع أن تقنع إنسانًا بالتسامح وهو يعتقد أن الله يريد أن يكون الناس كلهم نسخًا من بعضهم البعض، أو أن مشيئة الله تعالى تريد الناس متطابقين وليسوا مختلفين. ولن تستطيع أن تؤثر في إنسان يعتقد أنه مفضل عند الله على العالمين لمجرد نطقه وتلفظه ببعض الكلمات، أو لمجرد ولادته ضمن طائفة معينة".
إذن لابد من العمل على تغيير رؤية العالم وتجديد فهم العقائد في الأديان. ولن تتغير رؤية العالم إلا إذا جعلنا الكون نفسه كتابا مقدسا واحدًا مشتركًا بين الأديان المختلفة كتبها المقدسة، فإذا كانت الكتب المكتوبة المقدسة متنوعة بين الأديان، فإن هناك كتابا مقدسا لا يجب أن يختلف عليه اثنان، وهو الكون نفسه بوصفه صناعة إلهية.
وأشار الخشت، أن أعمال الله البادية في كتابه الكوني تكشف عن التنوع والتعددية إلى مالا نهاية بقدر اتساع الألوهية إلى ما لا نهاية. ولا توجد في هذا الكتاب الكوني مخلوقات أو ظواهر تشكل نسخا واحدة متطابقة بدرجة مائة في المائة؛ مما يدل على أن التنوع والاختلاف والتعددية هي الأساس في الكون. ولا شك أن قوانين الله في الطبيعة تقوم على التنوع لكن لا يوجد قانون يعرض قانونا آخر، كلها تعمل في منظومة نسقية خلاقة.. (وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) سورة النحل: آية 8.
وهذه الرؤية الفلسفية للأعمال الإلهية في كتابه الكوني المقدس، إذا ما تمكنت من العقول فإنها سوف تفته الأبواب واسعة ليس فقط على مستوى رؤية العالم، بل على مستوى تجديد فهم العقائد في الأديان؛ وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى فتح العقول والنفوس والضمائر أمام فكرة تقبل الآخر مهما كان مختلفا عني وعنك، ويؤدي إلى اتساع سبل السلام أمام التسامح مع التعددية والتنوع الثقافي والحضاري والديني والعرقي، وغلق الطرق أمام الكراهية لمجرد الاختلاف، وسد المنعطفات أمام العنف لمجرد المنافسة.
وبقدر ما في الكون من تعددية يكون اتساع عظمة الخلق الإلهي، وبقدر ما في الوجود من تنويعات لا حصر لها يكون تنوع إبداع الألوهية اللامتناهي.
وبالمِثل – ولله المثل الأعلى في السموات والأرض وما خارجهما – يمكن التأكيد أنه بقدر ما يكون في المجتمع من انفتاح وتنوع واختلاف تكون قوة المجتمع وتكون قوة الدولة ويكون ارتقاء ورقي الشعب، بشرط قدرة المجتمع على "إدارة الاختلاف" في منظومة نسقية خلاقة.
وطرح الخشت تساؤلا عن كيف يتم افتتاح عصر ديني جديد؟
لتكن الأجابة من جانبه "لكي نقوم بإحداث نهضة لابد من الرجوع إلى فلسفة التاريخ، وهي تكشف عن أن عصور الانتقالات الكبرى لا تتم إلا بتغيير طرق التفكير، وهو ما قام به الأنبياء الكبار والفلاسفة والمصلحون الدينيون والقادة السياسيون الكبار"إذا كانت المعركة بين العقل القديم والعقل الجديد، تقوم في إحدى مظاهرها على "صراع التأويلات"، فإنها لن تحسم إلا لمن يتمكن من الانتصار في معركة تغيير "طرق التفكير"؛ فالمعارك في كل عصور الانتقال من عصر قديم إلى عصر جديد، كانت معارك بين طرق التفكير التقليدية وطرق التفكير الجديدة.
ولذلك عملنا في جامعة القاهرة على تطوير العقل وتغيير طرق التفكير، ومن اهم وسائلنا مقررا التفكير النقدي وريادة الاعمال ومبادرة تطوير اللغة العربية. وإطلاق مشروع التنمية الاقتصادية والإصلاح الديني وإطلاق مبادرة خذ كتابا وتطوير الامتحانات.
وحتى الآن نجد أننا، إما لدينا فريق يريد تقليد الماضي، والماضي المقصود به ماضي آبائنا، وإما لدينا فريق آخر يريد تقليد الغرب. فعلى سبيل المثال، عندما ألف الدكتور زكي نجيب محمود كتابه "شروق من الغرب"، كان يرى أن حدوث النهضة يقتضي أن نقوم بتقليد الغرب في كل شيء. ورد عليه الشيخ الغزالي عليه رحمه الله في كتاب آخر بعنوان "ظلام من الغرب". فالمسألة أصبحت إما.. وإما. فأنا أرى أنه لا الشرق ولا الغرب، طريق النهضة، لأن فكرة التقليد نفسها هي فكرة مرفوضة. فكل عصر له ظروفه، وله معادلته، وله خصائصه. فالقرآن الكريم عندما يتكلم: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ"(غافر:82) لم يكن يقصد الأحداث، بل يقصد منطق التحول التاريخي.
ورصد الخشت الواقع الحالي للعلوم الدينية قائلا: الواقع الحالي الذي نعيشه حتى الآن أن العلوم الدينية التي نشأت حول النص الديني تجمدت وابتعدت عن مقاصده، وتم تحويل النص الديني من نص "ديناميكي" يواكب الحياة المتجددة، إلى نص "استاتيكي" يواكب زمناً مضي وانتهي. فالقرآن الكريم نص مرن يواجه العصر الحالي، ويواكب المتغيرات المعاصرة، وهو ما يتضح من خلال نزول القرآن على مدار ثلاثة وعشرين عاما، ومع ذلك نجد الآن أن المفاهيم التي نشأت حول القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة تجمدت وتحولت إلي نص ثابت.
ومن ناحية أخرى، نجد أن الإصلاحيين المعاصرين لم يقوموا بالعودة إلى الكتاب في نقائه الأول، بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التي أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا، واعتبروا أن كل الكتب القديمة هي كتب مقدسة، وهي تمثل المرجعية النهائية في فهم الدين، مع أنها في النهاية هي عمل بشري.
وأضاف الخشن أنه إذا استعرضنا ما تم خلال المائتي عام الماضية، سنجد من ناحية، أن كل علمائنا استعادوا كل المعارك القديمة، معارك زمن الفتنة الكبرى التي نشأت أيام عثمان بن عفان عليه السلام، ونحن لانزال نعيش في زمن الفتنة وعصرها، عصر الصراع، والانشقاق، والتكفير، والتفجير، ومعارك الهوية، ومعارك فقه الحيض والجنس والجسد، ومعارك التمييز بين الجنسين. وفي المقابل نجد أنهم لم يدخلوا بعد المعارك الجديدة والمعاصرة، معارك التنمية، ومعارك إنتاج العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية والإنسانية، ومعارك الفساد، ومعارك الحرية، ومعارك الفقر والجهل والأمية، ومعارك الدفاع عن الدولة الوطنية.
وطالب الخشت خلال كلمته بضرورة تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين قائلا: «عندما ظهر دعاة الإصلاح بداية من القرن التاسع عشر، ودعوا إلى التحديث والإصلاح الديني لم يقم أي منهم بمحاولة «تطوير علوم الدين»، بل قاموا بـ «محاولة إحياء علوم الدين»، كما تشكلت في الماضي، وكأن النهضة تحدث بإحياء العلوم القديمة، على الرغم من أن العلوم القديمة هي علوم بشرية نشأت لكي تواكب العصر الذي وجدت فيه من مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وبالتالي قد لا تكون مناسبة لعصور أخرى لها ظروفها وواقع حياتها التي قد تتباين تباينا جليا عن سابقتها.
واستطرد رئيس جامعة القاهرة قائلا: إن العلوم التي نشأت حول الدين علوم إنسانية، تقصد إلى فهم الوحي الإلهي، فالقرآن الكريم إلهي، لكن علوم التفسير والفقه وأصول الدين وعلوم مصطلح الحديث وعلم الرجال أو علم الجرح والتعديل..إلخ علوم إنسانية أنشأها بشر، وكل ما جاء بها اجتهادات بشرية، ومن ثم فهي قابلة للتطوير والتطور.
وهذه مسلمة واضحة وليست اكتشافا، لكن المتعصبين الذين تجمد عقلهم، وتجمد معه كل شيء، رفضوا الاجتهاد، وتمترسوا خلف التقليد. وهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا، أن من المنطق الفاسد والخلط الزعم بأن أية علوم شرعية هي مبادئ وقواعد يقينية مطلقة تصلح لكل زمان ومكان. فالبشر ذوو عقول نسبية متغيرة، والحقيقة تتكشف تدريجيا، ولا تأتي دفعة واحدة إلا من خلال «وحي»، بل إن الوحي نفسه جاء منجما عبر ثلاث وعشرين سنة، وترك مساحة للجهد البشري في اكتشاف الحقائق والوقائع في الكون، بل أيضا في استنباط الأحكام الشرعية.
وعلى ذلك، فكل ما جاء فى التاريخ بعد لحظة اكتمال الدين التى أعلنها القرآن، جهد بشرى قابل للمراجعة، وهو فى بعض الأحيان اجتهاد علمى فى معرفة الحقيقة، وفى أحيان أخرى آراء سياسية تلون النصوص بأغراضها المصلحية المنحازة. وفى كل الأحوال – سواء كانت موضوعية أم مغرضة - ليست هذه الآراء وحياً مقدساً، بل هي آراء بشرية قابلة للنقد العلمى والتمحيص.
وبالتالي، فأنا أدعو إلى تطوير علوم الدين وليس إحياء علوم الدين. فقد بات من الضروري تفكيك الخطاب التقليدي، والبنية العقلية التي تقف وراءه، وتأسيس خطاب ديني، وأصبح يمثل ذلك حاجة ملحة. فهناك فرق بين الخطاب الديني والنص الديني، فالنص الديني هو القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة. أما الخطاب الديني فهو عمل بشري في فهم القرآن والسنة يمكن إعادة النظر فيه. ويجب أن نعيد تفكيك هذا النص البشري لكي نعيد بناء العلوم. تطوير علوم الدين، بما فيها من ضرورة تجديد علم أصول الدي وعدم التركيز على الفقه فقط.
وأكد الخشت، أن كل من يعيشون في الخطاب القديم من الداخل، لن يمكنهم تأسيس عقل ديني جديد أو خطاب ديني جديد، ولا حتى يمكنهم تجديد القديم إلا بالتهذيب أو الاختصار أو الانتقاء أو الشرح، لكنهم في الجوهر يظلون أسرى القديم في مناهجه ومفاهيمه وتصوراته، وما التجديد عندهم في كثير من الأحيان إلا إبعاد لتيار قديم واستدعاء لتيار قديم آخر؛ لأنهم ببساطة ينظرون من الداخل، وحدود رؤيتهم مقيدة بإطار البناء من الداخل، ومحكومة بالمنهجيات التقليدية وطرق التفكير الموروثة والسارية.
ولذا أكاد أجزم – على مستوى الخطاب الديني - أن التجديد لا يمكن أن يأتي من المؤسسات الدينية الكلاسيكية في أية بقعة من العالم إلا اذا كان لديها القدرة على التخارج والتعلم من دائرة معرفية أخرى. يمكن أن تحدث هذه المؤسسات تحسينا أو تجميلا هنا أو هناك، ويمكن أن تهدم حائطا وتبني حائطا آخر، لكنها لن تستطيع أن تهدم بناءًا كاملا تعيش داخله!
والرأي عندي أنه لابد أن يأتي التجديد من دائرة معرفية خارجية أو قادرة على التخارج، وهذا ما وجدناه في كل الأنبياء العظام والفلاسفة المبدعين، فإذا راجعت سير الرسل الكبار تجد أنهم حملوا رسائل من خارج الدائرة المعرفية لأقوامهم، وأنهم قبل الرسالة كانت لهم احتكاكات بدوائر معرفية خارجية؛ فالوحي لا يأتي عبثا.
ولنضرب مثلا بالفلاسفة الكبار الذين أحدثوا تغييرا في طرق التفكير، وعلى سبيل المثال الفيلسوف الإنجليزي هيوم والفيلسوف الألماني كنط في ثورتهما الفلسفية لتغيير طرق التفكير، كان مرجعهما من خارج حقل الفلسفة التقليدي، وهو العلوم الرياضية والطبيعية، وهو ما سبق تأكيده في كتابي (العقل وما بعد الطبيعة) الصادر عام 1990 من القرن الماضي.
وأجاب الخشت عن التساؤل المطروح بهل يمكن تطوير العقل الديني بدون تطوير اللغة؟ قائلا: جمود اللغة أحد أهم أسباب عجزنا عن تطوير الخطاب الديني؛ فكيف يمكنك التعبير عن فكر ديني جديد بمفردات وأساليب تعبير قديمة؟ وكيف يمكن لخطاب ديني أن ينمو وهو يعيش في قوقعة لا تنمو؟ هذا أيضا ما يجعلني أؤكد مجددا أن المؤسسات التقليدية لا يمكن أن تطور الخطاب الديني لأنها تستخدم اللغة القديمة بكل مفاهيمها، وتعيش في الصدفة من داخلها، وهذه الصدفة نفسها لا تنمو.
وكشف الخشت إن تطوير اللغة هو أحد أهم أركان الدخول في عصر جديد، ويجب أن تطال عمليات تغيير طرق التفكير تطوير اللغة؛ لأن اللغة لها دور في نمو المفاهيم والتصورات ومن ثم السلوك. ومنهجية فهم اللغة تنعكس على الفكر مثلما ينعكس الفكر على منهجية فهم اللغة. هنا نعود مرة أخرى للعلاقة الديالكتيكية المتبادلة بين اللغة والفكر. والدليل على هذا ما تجده عند أهل الحَرف الذين يفهمون الكلام فهما حرفيا جامدا طبقا لمعانيه القديمة على عكس أهل المعاني الذين يفهمون الكلام وفق مقاصده وسياقه.
وأتصور أن أحد أهم أسباب التطرف والتشدد هو طريقة فهم اللغة عند التيار المتشدد الذي يقف عند حدود الحرف وظاهر اللغة كما تشكلت قديما وعدم الالتفات إلى السياق التاريخي والاجتماعي للغة، فضلا عن عدم الالتفات إلى المقاصد. وهم علاوة على ذلك يعيشون في بيت قديم هو اللغة القديمة، ومن الطبيعي إذن أن يفكروا ويستدلوا طبقا لمنطقها. ولِمَ نذهب بعيدا في التحليل النظري؛ فيكفيك أن تقرأ لهم أو تراقب طريقتهم في الحديث، فسوف تعرف على الفور أنهم يعيشون خارج التاريخ المعاصر، ولم يدركوا من الحداثة إلا قشورها، بل سوف تشعر بالاغتراب تجاه كلامهم وتجاه نمط تفكيرهم، وسوف توقن أن جسور الحوار منقطعة لأنها مع أناس من عالم آخر. ولذلك سوف تجدهم يكفرون أي شخص يعيش في عالم اللغة المخالفة لهم!
إننا لو ظللنا نعيش في النسخة القديمة من اللغة بخاصة أو من التراث بعامة، وهذا هو حالنا الآن، فسوف يستمر توقف نمونا الفكري في الوجود. وإذا كان وجودنا لابد أن ينمو ويتطور فلابد من تطوير الصدفة التي تحتويه، فبدون نمو الصدفة لن ينمو الكائن الحي بداخلها. واللغة هي هذه الصدفة؛ إنها مسكن الوجود الوجود الإنساني الذي تحدث عنه مارتن هيدجر.
وأوضح الخشت أنه لن يتحقق الخطاب الديني الجديد بالصورة المأمولة إلا من خلال الدراسات البينية التي يساهم فيها أكثر من إتجاه علمي، في إطار العلوم الاجتماعية والإنسانية. فالدراسات البينية هي التي تحقق الفهم المتكامل والشامل للظواهر التي يتم دراستها. ويبدو أن الخطوة الأولى للدراسة العلمية الجادة تتمثل في الوقوف على أهم الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية في البحث في علوم الدين، والتي تتمثل فيما يلي:
* الأخطاء المنهجية والإبستمولوجية في البحث في علوم الدين
1. الخلط بين المقدس والبشري
2. علم التفسير القديم يقوم على الصواب الواحد، وليس على تعددية المعنى وتعددية الصواب
3. سيادة العقائد الأشعرية وتكوين روية جديدة للعالم
4. الخلط بين الإسلام والموروثات الاجتماعية
5. عدم التمييز الإبيستمولوجي بين قطعي الدلالة من النصوص وظني الدلالة (تعددية المعني والصواب)
وهناك كذلك آيات ظنية الدلالة (تعددية المعني والصواب):
· يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ(المائدة:6).
· وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذاريات: 47).
· وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ (البقرة:228).
وفي ظني الدلالة نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية بهما أشياء كثيرة تحتمل أكثر من معنى، فالقدماء كانوا يذكرون المعاني ويقولون إن هناك معنى واحدا وصحيحا، وباقي المعاني كلها خاطئة، أي أنهم قسموا العالم إلى أبيض وأسود، وإلى صواب وخطأ، في حين أن هناك تعددية في الصواب يجب أن يعيها العلماء والباحثين. فالآيات السابقة أمثلة للآيات ظنية الدلالة. وهناك كذلك أحاديث نبوية عديدة ظنية الدلالة، تحتمل أكثر من معنى.
ومن هذه الأمثلة حديث الرسول صلي الله عليه وسلم القائل «أن لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة» (متفقٌ عليه، واللفظ للبخاري)،
6. عدم التمييز الإبستمولوجي بين اللاتاريخي (الثابت) والتاريخي (المتغير) في الأحكام الشرعية
7. عدم التمييز بين الإسلام والمسلمين
8. غياب العقلانية النقدية
9. الرؤية الأحادية للإسلام
10. عدم التمييز بين الأحاديث النبوية المتواترة والأحاديث الآحاد
وهنا يثار تساؤل مهم هو: لماذا كل هذا الخلط ولماذا كل هذه الأخطاء المنهجية؟
تتمثل الإجابة عن هذا السؤال فيما يلي:
1. لأن من يقومون بكتابة الخطاب الديني لديهم عقول مغلقة تقوم على منهجية نقلية يسيطر عليها وهم المسرح، مثل (حدثنا – أخبرنا – ابن القيم قال ..)،لا على منهجية نقدية كما سبقت الإشارة.
2. دور العلم الاقتصادي في دراسة الظاهرة الدينية من وجهة نظري أن الخطاب الديني التقليدي، هو إنتاج لنمط الاقتصاد الرعوي لأننا حتى الآن في العالم العربي لانزال نعيش في نمط الاقتصاد الرعوي المشكل للحياة والمحدد لأنماط العلاقة والتفاعل.