فتحٌ أم غزو عثماني لمصر؟ سؤالٌ في معركة «بناء الوعي»
السبت، 04 يناير 2020 02:01 م
أنا من جيل السبعينات الذي كان يدرس في منهج التاريخ المصري، أن دخول العثمانيين إلى مصر كان «فتحًا»، وليس غزوًا، أو احتلالًا، أو استعمارًا.. ولا زلت أتذكر أحد فصول هذا التاريخ الذي كان يحمل اسم «الفتح العثماني»!
وقتها عقولنا الطفولية، أو المراهقة، لم تكن مؤهلة لولادة تساؤلات عن ماهية هذا الفتح، لكن عندما كبرنا ونضجنا، وقرأنا وبحثنا، صارت عقولنا مهيئة لإنتاج مئات من تلك التساؤلات؟ وعلى رأسها: لماذا كان كَتَبَةُ مناهج تاريخنا يسمون دخول العثمانيين مصر «فتحًا»؟ وهل كان ضميرهم مستريحًا لهذا المسمى؟
الآن، وبعد قرابة نصف قرن، يتكرر الأمر في منهج التاريخ الذي يدرسه أولادي في مراحل تعليمهم الإعدادي.. فبينما كانت زوجتي تراجع مع ابني أحد دورس التاريخ، خرق أذني بهذه العبارة: (في بداية القرن السادس عشر، اتجه السلطان سليم الأول في «فتوحاته» نحو المشرق)!
استوقفت صغيري، واستفسرت منه، من أين جاء بهذا الكلام، فأخبرني: من مدرس الدراسات الاجتماعية! وأحضر لي مذكرة أعدها لهم المدرس، فوجدت العبارة مكتوبة بالنص.. وللأمانة، لم أجد كلمة «الفتح» مكتوبة في كتاب التاريخ «المدرسي» ولا في الكتاب الخارجي.. ولكن مكتوب مكانها كلمة «التوسعات»!
هنا يجب أن نتوقف.. فبناء الوعي يبدأ منذ الصغر، يبدأ من لحظات الولادة الأولى، ومع إرضاع الأطفال لبن الأم، نرضعهم بالتوازي محبة الوطن، والتعريف بأعدائه، وبمن يضمرون لهم شرًا.. في «معركة الوعي» علينا أن لا نتعامل مع «أحمد» باعتباره مثل «الحاج أحمد» ولا أن «سينا» مثل «سونيا».. فتحديد المصطلحات، وضبط المفردات، وتوضيح المفاهيم، ضرورة من ضرورات بناء الوعي، خاصة عندما تريد كشف عدوٍ قتل أبناءك، واغتصب أرضك، وهتك عرضك، ونهب ثرواتك، وجرف عقلك، وسرق حضارتك.. هنا يجب على كَتَبَةِ التاريخ أن يدركوا الفارق بين «الفتح والغزو أو الاجتياح»!
يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي فولتير: «إذا أردت الحديث معي، فحدد مصطلحاتك».. لذا فمن المهم عند دراسة التاريخ، أو أي علوم إنسانية واجتماعية أن نحدد المفهوم والمصطلح، وأن نقف على دلالاته، خاصة المصطلح الذي قد يحمل وجوهًا متعددة في المباني والمعاني؛ كالتي بين أيدينا؛ ما جعل مؤرخين ومستشرقين ومفكرين كُثر يساوون بين الفتوحات وبين الغزو والاجتياح، والاحتلال والاستعمار.
ما يهمنا هنا هو ضرورة التفريق بين مفهومين أو مصطلحين مختلفين هما: «الفتح والغزو أو الاجتياح»، اللذان كانا كانا يستخدمان- حتى عهود قليلة- بمعنى واحد، ومن دون تفرقة، قبل ظهور ما المؤرخين القوميين المصريين، الذي كانوا أول مَن وصموا الحكم العثماني «بالاحتلال».
فالمعني اللغوي لكلمة «الفتح»، أي فتح بلد ما- حسبما جاء في المعجم الوسيط- معناها «التغلب على البلد وتملكه».. أما المفهوم السياسي لمصطلح «الفتوحات»، فهي: «دخول أرض جماعة أو دولة استجابة لطلب وإرادة أبنائها، وضم البلاد المفتوحة إلى الدولة الفاتحة، واعتبارها ولاية من ولاياتها، وتطبيق النظام الحاكم في البلد الأم على الولاية الجديدة».. وقد عرفت الفتوحات العربية مع ظهور الإسلام وبعده مبادئ أكثر وضوحا وعدالة، مستمدة جذورها من القرآن والسنة وتعليمات الخلفاء. ويعود حسن معاملة العرب لأهالي البلاد المفتوحة، إلى أن الفتوحات العربية لم تكن تستهدف استعمار الأراضي والسكان، وإنما كانت تستهدف نشر الدعوة الإسلامية.
أما كلمة الغزو، أو الاجتياح، فهي: «السير إلى قتال العدو ومحاربته في عقر داره».. وتعرف، في العلوم السياسية، بأنها: عملية دخول منظم إلى أرض تخص جماعة أخرى دون إرادة أهلها، بهدف الاستيلاء عليها واحتلالها ظلما وعدوانا. وهناك أمثلة عديدة في التاريخ الحديث على الغزو العسكري في الحروب. أما أشهر أمثلة الغزو الاستيطاني فهو الغزو الصهيوني لفلسطين، بواسطة الهجرة المنظمة والحماية الإمبريالية والعنف والتهجير والاحتلال المسلح.
ربما كان تسمية الغزو أو الاحتلال العثماني لمصر «فتحًا» أمرًا مقبولًا طيلة سنوات حكم آل عثمان، الذين اعتبروا أنفسهم امتدادًا لما يسمى بالخلافة الإسلامية.. وربما كان مقبولًا أيضًا في فترة حكم الأسرة العلوية.. لكن ما مبرر استمرار تدريس مصطلح «الفتح العثماني» في مناهجنا الدراسية بعد ثورة 23 يوليو وحتى الآن؟ وكيف نقنع أولادنا بأن حكام «آل عثمان» قتلة، وسفاحون، وسافكو دماء، وناهبو ثروات، وسارقو حضارة.. بينما هم يدرسون تاريخًا يقول لهم إن غزو العثمانيين لبلادنا وبلاد العرب واغتصابهم أراضينا، كان «فتحًا إسلاميًا» أو مجرد «توسعات» للأمبراطورية التركية- وفقًا لمقرر التاريخ على الصف الثالث الإعدادي؟!