في العراق يُقتل النقباء
السبت، 30 نوفمبر 2019 02:38 م
في الثقافة الشيعية، لن يخرج المهدي المنتظر حتى تتهيأ له الأرض، ومن علامات التهيؤ لظهوره أن يكون على الأرض 313 من الفرسان المؤمنين؛ هم النقباء؛ يا مهدي لا تخرج؛ فمن يدعون ليلهم ونهارهم تعجيل خروجك قتلوا نقبائك في العراق.
لا نقباء إلا هؤلاء الشباب العفوي الذين ظهروا في المشهد العراقي، هم المؤمنون حقًا بأن الحرية دين، أن أصحاب العمائم غير منزهين عن الفساد وتبني المشاريع السياسية العابرة للحدود، الذين تحدثوا السهل الممتنع، ليتجاوزوا بذلك أكثر التنظيرات الفلسفية والسياسية المعقدة.
النقباء هم من سُكبت دمائهم لتختلط بدماء الحسين في فاجعة "طف" عصرية، كلاهما كانا خونةً في نظر الحاكم.
الحسين ثورة؛ حين يكون على أرض الأعداء، وممولًا جاسوسًا حين تكون ثورته على الحوزات العلمية.
العراقيون نفضوا تراب العنصرية والمذهبية والقبلية، ومالوا تجاه موروثهم الحضاري والإنساني الضارب في أعماق التاريخ، ليُعيدوا كتابة تاريخهم من جديد.
اليوم نشهد صراع بقاء بين كل الشرور المتدثرة بعباءة القدسية، وبين الرغبة في التحرر المنبعثة من رحم التجربة الحضارية الإنسانية العراقية.
العراق يمر بمرحلة مفصلية في تاريخه، ولك تتخيل أن من يديرون الأمور جعلوا خلاص العراق في العودة عشرات القرون إلى الوراء، حيث كانت عشتار جالسةً على عرشها تنتظر تموز آتيًا من المراعي.
تربيت على مؤلفات الدكتور علي الوردي فيلسوف علم الاجتماع العراقي، الأعظم في تشريح السيكولوجية العراقية، والأكثر جرأة في تفنيد تركيبتها شديدة التعقيد.
في كتابه "مهزلة العقل البشري" يقول الوردي: «يقول نيتشه: "الدين ثورة العبيد". ويقول ماركس: "الدين أفيون الشعوب". وفي الحقيقة إنّ الدين ثورة وأفيون في آن واحد. فهو عند المترفين أفيون وعند الأنبياء ثورة. وكل دين يبدأ على يد النبي ثورة ثم يستحوذ المترفون عليه بعد ذلك فيحولونه إلى أفيون. وعندئذ يظهر نبي جديد فيعيدها شعواء مرة أخرى.»
الوردي يعيد بناء الصورة الحالية في العراق، بعد أن تحول إلى بوابة خلفية لأصحاب المصالح التوسعية في المنطقة، والذين يحشون أسلحتهم برصاصات الأفيون الديني، يتغنون بثورة الحسين ويعتنقونها مذهبًا، ويقتلون حواري الحسين اليوم في العراق.
الاهتمام بالساحة العراقية ليس ترفًا، وليس مجرد خبر يمر على شريط الأخبار، فالعراق دولة رائدٌ في تغيير البنية الفكرية لمحيطه الإقليمي، وما يحدث اليوم سيكون له صدى على مدار القرون القادمة، خاصة في التعامل مع الوصايا الفكرية التي يمارسها كهنة الرب على أتباعه؛ الرب ينحاز للعدل والحرية، ولا يجلس في بلاط الحكام.
مع كل فجر جديد على أرض الرافدين، يتآكل جسد الصنم، حتى لو مكث الفاسدون وتشبثوا بالحكم، سينهار الصنم في قلوب الأجيال، ستضرب البطالة صفوف وكلاء الرب بعد أن سقطت هيبتهم، الشباب أدرك أن لا وصاية ولا ساعي بريد بينه وبين الله، الله لا ينظر بقداسة إلى العمائم.
كل خطوة عنف تجاه الشباب العراقي ترتد إلى صدر من يخطوها، للمرة الأولى في تاريخي القصير على هذه الأرض أعجز عن تمييز السني من الشيعي، المسيحي من المسلم، العربي من الكردي، في مشهد من مشاهد العراق، وعلى من يدير عمليات إجهاض الحراك العراقي أن يقلق بشدة، حين يكسر الوعي حواجز الدين والقوميات ويُذيب الجميع في بوتقة الوطن بلا تمييز.
العراقيون اختاروا الانحياز للوعي قولًا واحدًا، الخيار هذه المرة خيار مجتمع، وحين تختار المجتمعات فلا مجال أمام القيادة إلا الانصياع والتلبية، لا يمكن لثلة من الحكام أن يقفوا أمام الانتخاب الطبيعي، حتى وأن قتلوا النقباء.