كفانا جلدا للذات
الثلاثاء، 29 أكتوبر 2019 12:46 م
يشهد التاريخ أن الإنسان المصرى ذو سمات شخصية جميلة من أصالة وشهامة وجدعنة تميزه عن غيره من الشعوب، ولدي قناعة شخصية أن هذه الصفات لازالت متأصلة في الأغلبية العظمى من الشعب بالرغم من ظهور نماذج مختلفة على سطح المجتمع، وبروز سلوكيات لم تكن أبدا ضمن مكونات هذا الشعب الطيب الأصيل .
أعلم جيدا أن حادث الأمس وما أُطلق عليه حادث "شهيد التذكرة" هو حادث مفجع ومؤلم وغير إنساني بالمرة، فكيف لإنسان أن يقرر التعامل بتلك القسوة مع أناس جرمهم أنهم لم يدفعوا ثمن تذكرة قطار؟.. وكيف تحمل قلب ذلك الجاني تقرير عقاب متوحش بهذا الشكل على إنسان بالرغم من وجود قانون ينظم عقابه !
ما أثار انتباهي أن هناك نغمة سائدة تتهم ركاب القطار بالتراخي وعدم الرحمة وتقديم يد المساعدة للمجني عليهما، إلا إنني أشك أن هذا ما حدث لأن القسوة ليست أبدا من طباع الشعب المصري، وتصوري أن المسألة كانت مفاجأة وسريعة فأحيانا يحدث الموقف في لحظات دون أن يتخيل المشاهد ما يمكن أن يتطور إليه الأمر، ويقيني أن شعب مصر في أغلبه يتميز بالطيبة والرحمة وحب الخير، وهذا ما يجعل مثل تلك الحوادث مستنكرة ومرفوضة من الغالبية العظمى، ولو كان حقا ما يثيره البعض من أن شعب مصر توحش ولم يعد كسابق عهده، ما كان ثار كل هذه الثورة أمام تلك المأساة وما سبقها من مآس وجرائم وحوادث.
لا ننكر أبدا وجود قلة مجرمة مع الأسف بدأت في الازدياد، ولابد لها من وقفة حازمة تردعها والأفضل أن يكون هناك سبل للوقاية التي هي خير من العلاج، والبدء في البحث عن الأسباب والتفكير في حلول جذرية تمنعها من الأساس أو تقللها قدر الإمكان.
عزيزي القارئ قبل أن تبدأ في جلد ذاتك وأبناء مجتمعك وتعميم الحكم على الشعب خلافا للحقيقة أنظر حولك وتذكر كم من حالة إنسانية صعبة مر بها زملاء عمل، وقام الجميع بتقديم يد المساعدة كل على قدر استطاعته؟.. وتفكر في أعداد الأشخاص الذين يقومون يوميا بالتبرع بدمهم لأناس لا يعرفونهم بمجرد علمهم باحتياجهم لفصيلة دم مماثلة لفصيلة دمهم؟.. أنظر إلى كم المحتاجين الذين يقوم القادرون بمساعدتهم كي يستطيعوا العيش، فكثيرا ما نتساءل كيف يستطيع هؤلاء البسطاء العيش برغم الغلاء والظروف الاقتصادية الصعبة ولو بحثنا لوجدنا أن هناك الكثير من أصحاب القلوب الرحيمة في المجتمع التي لا تبخل في مد يد المساعدة للمحتاجين، نماذج كثيرة للخير والخيرين تملأ المجتمع وربما لكثرتها ولإنها هي الشيء المعتاد لا يتحدث عنها أحد، أما ما يشذ عن هذه السمات التي تميز المصريين فهو ما يثير الدهشة والغضب والألم لأن القسوة غريبة علينا وعلى مجتمعنا.
أما الشق الثاني الهام والذي أود أن أشير إليه باستغراب هو الإصرار على إلقاء اللوم على الوزير " كامل الوزير"، الرجل المجد الذي يعمل ليلا ونهارا في جميع الاتجاهات من أجل إصلاح منظومة مدمَرة منذ سنوات، ففكرة أن يعتبره البعض المسئول الأساسي عما حدث هو أمر غير مفهوم ولا مبرر! ربما كان مفهوما لو كان ما حدث هو تعليمات وقانون أصدره سيادته مثلا، أو ربما نستطيع تفهم هذا الهجوم لو كان سيادته برر ما حدث أو لم يستنكره ويؤكد أنه سيحاسب المقصر!.. فهل يعقل أنه إن أخطأ موظف أو أجرم في أي مؤسسة تتم إقالة مديره أو رئيسه في العمل؟.. أم أن الطبيعي هو رفع الأمر إليه ومطالبته باتخاذ اللازم من إجراءات قانونية ترد الحقوق لأصحابها وتعاقب المخطئين؟!.
وعلى سياق آخر فمن خبرتي حول قضية تذاكر القطارات وركوب البعض دون تذكرة، ولتلافي تكرار تلك المشكلة ووجود ركاب دون تذاكر واكتشافهم أثناء الرحلة، فمن الأفضل أن يتم التأكد من حصول جميع الركاب عليها لكن قبل التحرك، ففي زياراتي لعدة دول أوروبية وأثناء استقلالي للقطارات يتم التأكد من تذاكر الركاب قبل تحرك القطار كي لا تحدث مشكلة أثناء سيره، وبالطبع إن حدث أي خلل أو سهو فعلى الكمسري اتباع الإجراءات القانونية المفروضة بالتحفظ على الشخص وتسليمة لأقرب نقطة شرطة في أول محطة يتوقف بها القطار لاتخاذ اللازم معه .
أما إذا كان الأمر كما ذكر البعض أن هذين الشابين المجني عليهما كانا بائعين جائلين وأن عادة هؤلاء عدم شراء تذاكر بالطبع، فأقترح أن تكون هناك تصاريح للباعة وتقنين وجودهم في القطارات من أجل حل مشكلة عدد كبير من الشباب الذين يرغبون في العمل والكسب الحلال بشراء بضاعة بسيطة وبيعها بأسعار زهيدة تساعدهم على العيش، كما أتمنى من كل قادر أن يحاول مساعدة هؤلاء بشراء أي مما يبيعونه حتى وإن لم يكن في حاجة لها فكما يقول المثل الشعبي "الحسنة المخفية في البيع والشراء".
وختاما أؤكد أن قناعتي أن الخير في شعب مصر وسيظل بداخله، وعلينا جميعا أن نغرس الصفات الكريمة في أبنائنا وأن نتمسك بخصائصنا الطيبة، وكفانا جلدا للذات وكفانا اتهاما للشعب ككل بالقسوة والإجرام على غير الحقيقة والدليل على ذلك أنه لو كان بالفعل هذا ما وصل إليه حال الشعب ككل، فمن هؤلاء الذين يملؤون الكون رفضا واستنكارا وحزنا على ما حدث؟.