إنهم يكرهون الزمن
السبت، 26 أكتوبر 2019 02:28 م
أنت واقع فى بحر غرام الصيف، بينما أنا متعصب للشتاء، وعلى خلفية هذا التباين، ستنشب بيننا معارك كلامية كالتى تندلع بين مشجعى كرة القدم، كلٌ يرى فريقه الأحسن والأعظم، ثم سنهدأ وتأخذنا المعارك الكلامية لتبادل الطرائف والنكات حول الصيف والشتاء، ثم سننصرف إلى شئوننا هادئين مطمئنين.
على بعد حَجر منا، يعيش ناس يكرهون الصيف والشتاء والربيع والخريف، إنهم يكرهون العام كله والفصول كلها، أحدهم قال بملء فمه: «لقد أصبحت أكره الزمن، أريده أن يتوقف أو ينتهى».
كنت أتنقل بين الفضائيات فوقعت بين أنياب كارثة «مخيم المودة»، هل رأيت كم هو شاعرى وحالم اسم المخيم؟
المودة التى هى فقط الحب، المودة التى تقوم على أكتافها الحياة ذاتها، تتحول هنا إلى عنوان مضحك من شدة مفارقته لأرض واقعه.
دخل كل الخصوم وكل الإرهابيين إلى أرض سوريا الحبيبة والشقيقة، صفوا حساباتهم فوق الجسد السورى الذى مزقته القنابل وجعلته كومة من الأشلاء، ثم هدأت المدافع لساعات فتمكنت بعض الأسر من الفرار إلى حيث يموتون من حرارة الصيف ومن برد الشتاء ومن الحسرة على الربيع ومن جفاف الخريف.
تتجول الكاميرا بين خيم من القماش الرخيص، هى جسد المخيم، لا يوجد أى بناء على الإطلاق، لا كهرباء ولا صرف صحى، بل لا ماء، الماء تأتى به سيارات عندما يهدأ القصف.
طبعا لا مدارس للأولاد ولا عمل لأبائهم، كان الأولاد- وهم فى غاية الوسامة- يصنعون ألعابهم من الطين، وعندما يسيطر عليهم الملل يقذف بعضهم البعض الآخر بكرات الطين.
العجيب أن ثمة نساء حوامل أو مرضعات، بأى جسارة تأتى هذه بطفل لهذا العالم؟!
يضع من يقدم نفسه بوصفه مديرا للمخيم وجهه فى عين الكاميرا، ثم يقول كلاما كثيرا وجدته بنصه منشورا قبل عام، الأمر الوحيد الذى تغير هو عدد العائلات التى أصبحت تقيم بالمخيم، كان العدد- قبل عام- مئة وعشرة عائلات، وأصبح الآن أكثر من ثلاثمائة عائلة.
قال مدير المخيم: «الوضع الإنسانى الذين يتعرضون له مأساوى بشكلٍ كبير، فالعاصفة المطرية الكثيفة التى تعرضت لها المنطقة، أدت لتلفِ معظم الخيم وانجرافها مع السيول المطرية، وتضررِ المخيم بشكل كبير، ومع تضرر المخيم لم يبق لأهله- من نساء وأطفال وشيوخ- مأوى يلتجئون إليه ويحمون أنفسهم قسوة الطقس وبرودته، نناشد جميع المنظمات الإغاثية والمنظمات الإنسانية وكل من يمكنه المساعدة- حتى لو بشكل فردى- أن يسرع فى نجدة أهل المخيم بأقصى سرعة ممكنة بعد أن تمكنت مياه الأمطار من معظم المخيم وشردت أهله».
تترك الكاميرا مدير المخيم لتحلق فوق رءوس الأطفال، يقول طفل- ببراءة- مشيرا إلى ملابسه القديمة: «أشتهى لباسا جديدا والذهاب إلى الصف».
الصف هو العودة إلى المدرسة، ولكن عن أى مدارس يتحث ذلك الطفل البرىء؟!
هنا أكبر لا شىء عرفه تاريخ البشرية، هنا العدم مجسدا على هيئة صفر كونى يسد الأفق، صفر يحصده الجميع بإصرار جنونى، هؤلاء البشر خارج طاولة أى تفاوض، يأمر أردوغان جنوده باحتلال أرض سوريا، يقع المخيم فى قلبها ولكنه لا يلتفت لهؤلاء الذين أصبحوا خارج التاريخ والجغرافيا، يتفاوض من يتفاوض مع أردوغان، ثم لا تعثر على كلمة واحدة عن كل الخيام القماشية الرخيصة والممزقة التى تسمى مخيمات، لا أحد يضع البشر فى ميزان الحسابات، الكل يسعى للسيطرة على الأرض وما فى بطنها من ثروات.
أترك أنا البرنامج الوثائقى، وأذهب للبحث عن جذور الكارثة فلا أجد إلا هذه الجملة، تنشرها كل الصحف والمجلات والمواقع : «تعانى مخيمات النازحين فى الشمال السورى المحرر مع قدوم فصل الشتاء، من حالة إنسانية مأساوية بسبب قسوة الأجواء الشتوية، وقلة وسائل التدفئة، وتحول معظم الطرق داخل المخيمات والواصلة بينها لمستنقعات طينية بفعلِ السيول المتكونة من مياه الأمطار، بالتزامن مع مشاكلها الأساسية من نقصٍ فى الخدمات والمواد الغذائية، بالإضافة لانتشار البطالة وقلة العمل لدى أهالى المخيم، فى ظل غياب المساعدات والإغاثات من المنظمات المحلية والدولية».