دقيقة حداد على روح أحمد فراج
الثلاثاء، 01 أكتوبر 2019 11:57 ص
عدة أحداث تصدرت المشهد المصري الأسبوع الماضي، ورغم أنها تنوعت في طبيعتها بين السياسية والفنية والاجتماعية والرياضية، إلا أنها اجتمعت على الصخب إلى حد الضجيج، ومؤشراتها في معظم الأحوال كانت سلبية، في كواليس المشهد وبهدوء شديد، رفع مواطن مصري بسيط اسمه أحمد فراج راية الإنسانية، وكأنه يطمئن الجميع إلى أنها لا تزال بخير، رغم اختلال الموازين، واتساع الفجوات، في مجتمع يصر على مفاجأة الجميع مع كل طلعة شمس، لعل أحمد لم يكن يقصد كل هذه المعاني، إلا أنه أعطى بفطرته الدرس، وجعل من إنسانيته مثالاً يُحْتَذَى، وترك لأطفاله الثلاثة إرثاً لا يُقَدَر بمال، هو في الحقيقة مدونة من القيم النبيلة.
بينما يسير الشاب ابن الثلاثينيات أحمد فراج ظهيرة الخميس الماضي، بجوار شريط السكة الحديد المجاور لقريته كفر عمار التابعة لمركز العياط بمحافظة الجيزة،شاهد طفلتين تعبران شريط السكة الحديد من إحدى النقاط غير المخصصة لعبور المشاة، وبالتزامن، رأى أحمد القطار قادماً على بعد أمتارٍ منهما، فما كان منه إلا أن انقض على الطفلتين ليبعد إحداهما عن مسار القطار، وهو يهم باحتضان الثانية راقداً أسفله في مشهد بطولي أودى بحياته بينما كتب للطفلتين عمراً جديداً، أهالي قرية أحمد فراج والقرى المجاورة، شيعوه في مَشْهَد مَهيب، لن يغيب عن ذاكرة أهله وذويه مهما طال الزمن، فقد حفر أحمد اسمه في قلوب الجميع.
رحل أحمد تاركاً زوجته ربة المنزل وثلاث بنات، ريهام 5 سنوات، ومكة 3 سنوات، وليان 6 أشهر فقط لا غير، ولم يكن يملك إلا ورشة صغيرة لإصلاح إطارات السيارات، مثلت دخله الوحيد للإنفاق على أسرته، وهو العائل الوحيد لها بعدما فاته قطار التعليم إلا قليلاً، نسى أحمد كل هذا في لحظة، ولم يعره أي اهتمام أو أدنى تفكير، بعدما اختار مواجهة الموت مُضَحياً بحياته ثمناً لحياة طفلتين في عمر الزهور، وأخشى ما أخشاه الآن، أن ينسى مجتمع يعيش اليوم بيومه، تضحية أحمد وأسرته وبناته، والله وحده يعلم، كيف تمضي الأيام بهن الآن، فقد تاهت بطولة أحمد وسط أحداث عبثية لاهية.
إذا سارت الرياح كما تشتهي السفن، قد تكفل وزارة التضامن الاجتماعي معاشاً شهرياً لأسرة أحمد، ومعه إحدى مشروعات المرأة المُعِيلة لأرملته، بما يضمن دخلاً مستقراً لأسرة مكلومة لن تعوض راعيها ولو بمال الدنيا، وربما تتكفل وزارة التربية والتعليم، ومن بعدها وزارة التعليم العالي، بمصاريف تعليم بنات أحمد، ولعل محافظة الجيزة بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم أيضاً تطلق اسمه على إحدى مدارس قريته كفر عمار أو القرى المجاورة بمركز العياط، فاسمه يستحق أن يُخَلَد وبطولته الإنسانية لا تقل عن بطولة أي شهيد ضحي بحياته في سبيل وطنه، أسرة أحمد لابد وأن تعيش مُكَرَمَة مرفوعة الرأس، وهي الآن أمانة بين أيادينا جميعاً.
إن الإنسانية كل الإنسانية، أن يطابق سلوك الإنسان، الأفكار التي يؤمن بها، وفي حياة كلٍ منا لحظة اختبار، لحظة حرجة، نصادفها مرة أو مرات، ونتوقف فيها مع أنفسنا لنقرر ونختار، ما بين المصداقية إذا وافق سلوكنا معتقداتنا، أو الانحراف بالنفس كذباً ونفاقاً، وفرق كبير بين إرادة الحياة في الحالة الأولى، حين يملك الإنسان قراره، فيعيش طيب السيرة والذكر حتى وإن مات، وذلك بما أعطاه من مثل وقدوة، وما تركه من بصمة أو بصمات، وبين الحياة والسلام، حين يذهب العمر بلا هوية، فيعيش الإنسان ينافق نفسه قبل الآخرين، حتى يعلوه الصدأ، فيموت وهو حي يُرْزَق، دقيقة حداد على روح أحمد فراج.