تفسير الهذيان لصاحبه يوسف زيدان
الأحد، 01 سبتمبر 2019 06:58 م
لا يكف (الروائي/ القاص/ الباحث / المفكر / المجدد / العلامة / الفهامة) يوسف زيدان عن إثارة الجدل، ولو كان بلي عنق الحقائق، والضرب بمعاجم اللغة العربية عرض الحائط، وإلقاء تفاسير كبار المفسرين في خرابته الفكرية؛ ليعلن لنا أنه الوحيد الذي يحتكر المعرفة الحقيقية، والمعنى الحقيقي لأي كلمة، والتفسير الأدق لكل جملة اختلف عليها الأقدمون والمحدثون على السواء.
ليس مهمًا أن يكون تفسير يوسف زيدان متوافقًا مع الثوابت التي استقر عليها العقل العربي، وكتب التفاسير والمعاجم العربية.. إنما المهم أن يكون التفسير مثيرًا، غريبًا، شاذًا، وخارجًا على المألوف؛ ليضمن احتفاء الجهال به، وترويج ساقطي اللغة والدين لخزعبلات، وتفسيرات إمامهم اللوذعية على مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام التي تحتفي بما يتقيأه هذا المفكر الفذ.
منذ أيام قلائل، أتحفنا بحر العلوم العلامة يوسف ابن زيدان بتفسير «جديد لانج» لبعض مفردات قصيدة «البُردَة» التي يقول مطلعها «بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ»، وهي التي مدح بها الشاعر كعب بن زهير، النبي محمدًا- صلى الله عليه وسلم- عندما جاءه مسلمًا متخفيًا، بعد أن أهدر دمه، فكساه النبي بردته الشريفة.. إذ فسر، لا فض فوه، كلمة «فقلبي اليوم مَتْبولُ» بأنه «محطوط في التوابل»!
ويبدو أن يوسف زيدان كان جائعًا، و«عصافير بطنه بتصوصو» وهو يفسر هذا المعنى، أو أنه كان يقدم تفسيره «السبايسي» على قناة «سي بي سي سفرة»، وإلا بَمَ نبرر تفسير زيدان الذي لم تأت به قواميس ومعاجم اللغة العربية، لا القديمة ولا الحديثة، ولا حتى معجم الشيف الشربيني!
بحكم تخصصي في اللغة العربية وعلومها، فإن «مَتْبُول» اسم مفعول من «تَبَلَ» بمعنى سقم وضعف. فيقال: تَبَلَ الحب فلانًا، أي أسقمه وذهب بعقله. و«المَتْبُولُ» هو السقيم، الذي ذهب الحُبّ بعقله.. وليس الشخص «المُتَبَّل»، اي «المحطوط في التوابل»، كما فسرها ابن زيدان.
والمتخصصون في اللغة العربية يعلمون جيدًا أن هناك فارقًا كبيرًا بين «مَتْبُولُ»، و«مُتَبَّلٌ»، و«مُتَبَولٌ». فالأولى اسم مفعول من «تَبَلَ»، والثانية اسم مفعول من «تَبَّلَ»، والثالثة اسم مفعول من الفعل «تبول»، يعني «طرطر»، كما نقول في ثقافتنا الشعبية! لكن يبدو أن يوسف زيدان يجهل أصل أسماء المفاعيل الثلاثة، وينسبها إلى فعل واحد، وأصل اشتقاقي واحد، معتمدًا على أن الميكروفون معه، ولن يعارضه أحد، أو يصحح له خطأه، أو يحاسبه أحد على جريمته في حق اللغة و«التوابل» العربية!
والحقيقة فإن «خطأ التوابل» ربما يكون أقل بكثير من الجرائم التي ارتكبها يوسف زيدان في حق الدين، وفي تفسير القرآن الكريم والسنة النبوية، وفي تفسير التاريخ أيضًا.. فالرجل العلامة ما ترك شيئًا استقر في وجدان الأمة الإسلامية والعربية، إلا وحاول نقضه وهدمه، والتشكيك في أدلة وجوده، وحدوثه، وثبوتيته.
فمن منا ينسى الحلقات التي ظهر فيها ابن زيدان مع الإعلامي عمرو أديب، وشن فيها هجومًا واضحًا صارخًا على القرآن وعلومه، وقال في إحدى الحلقات إن: «قراءات القرآن سبع، استبقينا على حرف واحد وهو الحرف القرشي». ثم تكلم عن خطأ التفسير وضرب مثالًا فقال: «قراءة فتبينوا من البيان وهو الوضوح وأغفلنا قراءة فتثبتوا وتعني التأكد، وأغلب تفسير القرآن خاطئ، والقرآن له 11 ألف قراءة و11 ألف معنى».
الغريب أن يوسف زيدان قرأ الآية هكذا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»، فالإمام العلامة أخطأ في الآية، ونطقها «إذا جاءكم» بدلًا من «إن جاءكم فاسق بنبأ».. ولأن المذيع الذي يحاوره جاهل، فلم يصحح له الخطأ. فهل يثق أحد عاقل في تفسير هذا الشخص؟
ثم لقد نسي ابن زيدان أن إجماع الأمة منعقد على أن القرآن نقل إلينا عن طريق التواتر، فكل جيل نقله إلى مَن بعده كما هو. ونسي كذلك أن إجماع الأمة منعقد على حفظ القرآن من التحريف والتبديل، والزيادة والنقصان، وأن الله تكفل بحفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
أما قضية الأحرف السبعة، والإبقاء على الحرف القرشي دون غيره، فأتحدى يوسف زيدان ان يذكر هذه الأحرف السبعة.. فالأمر- باختصار- أن من البشر في بيئات معينة لا يستطيع أن ينطق حروفًا ما من مخرجها كحرف العين، والحاء، والخاء، والضاد.. لذا جاء التسهيل والتخفيف وليس الاختلاف الذي يؤدي إلى تغيير المعنى.
وبالنسبة للإبقاء على الحرف القرشي، فقد جاء في كتاب «المزهر في علوم اللغة» للإمام السيوطي: «أجمع علماؤنا أن قُرَيشًا أفصح العرب ألسنةً وأصفاهم لغةً، وذلك أن اللّه تعالى اختارهم من جميع العرب، واختار منهم محمدًا، فجعل قريشًا قُطَّانَ حَرَمه ووُلاَةَ بَيْته، فكانت وفود العرب من حجَّاجها وغيرهم يَفدُونَ إلى مكة للحج ويتحاكمون إلى قريش، وكانت قريش مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقّة ألسنتها إذا أتتهم الوفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيّرواْ من تلك اللغات إلى سلائقهم التي طُبعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب».
أما عن ادعاء يوسف زيدان بأن أدوات التعريف في اللغة العربية كثيرة، وليست مقصورة على (ال) فقط.. فقد صور له جهله أن هناك أداة التعريف تسمى (ام)، زاعمًا أن إمبابة هي البوابة، وامبارح تطلق على البارحة. ونسي العلامة الفذ أن هناك بونًا شاسعًا بين «المعارف» و«أداة التعريف»، وأصغر دارس للغة العربية يعلم أنه لا توجد أدوات تعريف غير (ال) أو (ام) التي يقصدها زيدان، وهي بالمناسبة (ال) لكن أُبدلت اللام ميمًا، كما في لهجة حِمْيَر، وعليها قُرِئ الحديث: «ليس من امبر، امصيام، في امسفر»، أي: «ليس من البر الصيام في السفر».
وللعلم في «القلب المكاني» باب شهير من أبواب علم الصرف، ولهجة حِمْيَر من اللهجات التي يزخر بها علم اللغة.. ويمكن ليوسف زيدان الرجوع إلى هذين العلمين للاستفادة منهما، بدلًا من أن يهرف بما لا يعرف!
زيدان اعتاد ترويج وبيع بضاعته الفاسدة لمن يستضيفه أو يتابعه، فقد واصل هذيانه بإنكار معراج النبي- صلى الله عليه وسلم- وزعم أن الواقعة «من الأرجح أن تكون قصة روجها القصاصون والتي تكون أكثرها من الإسرائيليات والتراث الفارسي»، مشيرًا إلى أن الإسراء فقط هو المثبت في القرآن.. ثم واصل تخاريفه، وأنكر وجود المسجد الأقصى، المعروف ببيت المقدس، وادعى أن أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عندما ذهب إلى القدس لم يجد به مسجدًا ليصلي فيه، فكيف يكون هناك معراج للرسول؟
ولأن زيدان هو الوحيد العالم بخبايا الدين والتاريخ، فقد كال الاتهامات لصلاح الدين الأيوبي، ووصفه بأوصاف لا تليق إلا بالقتلة والمجرمين والسفاحين وقطاع الطرق.. ثم أنكر واقعة أحمد عرابي، قائد الثورة العرابية، زاعمًا أن عرابي لم يلتق الخديو توفيق من الأساس، بعكس ما هو مثبت في «دليل مصر» من لقاء عرابي الخديو توفيق مرتين.. كما ادعى أن عرابي حرق مدينة الإسكندرية، وأمر جنوده باستباحتها، دون أن يقدم دليلًا على ذلك.
ربما يسأل سائل: لماذا يُصر يوسف زيدان على السير عكس الموج؟ ولماذا يشكك دومًا في كثير من الثوابت المستقرة في العقل الجمعي العربي والإسلامي؟ وهل ما يدعيه صحيحًا، وأنه يمتلك وحده الحقيقة الكاملة؟
ظني، بل يقيني أن هذا الزيدان ليس مفكرًا تنويريًا، أو مثقفًا حقيقيًا، أو باحثًا عن الحقيقة الكاملة من كافة زواياها وجوانبها، بل إنه نموذج لببغاوات البشر الذين يعيدون بكل قوة آراء وأفكار وقضايا سبق وأن طرحها غيرهم من المستشرقين واليهود والصهاينة.. إذ لا يرى الأستاذ يوسف أن إسرائيل دولة عدوًا، ويحاول ترويج أفكاره الشاذة في المجتمع المصري؛ ليتحول المصريون شيئًا فشيئًا، وبمرور الوقت، إلى مجتمع مطبع مع إسرائيل غير معادٍ لها.. أو ربما أراد التودد إلى جهات ومنظمات مشبوهة، تتبنى أمثاله، وتغدق عليهم الأموال الحرام، لينفذوا مخططاتهم التدميربة!
ختامًا.. إذا كنا ننتقد جهل، وخزعبلات، وشطحات يوسف زيدان، فإن اللوم الأكبر على وسائل الإعلام، وعلى الصحفي والإعلامي الجاهل الذي يستضيفه ويحتفي بآرائه وأفكاره الشاذة، ويفرد لها مساحات كبيرة لمناقشتها، من دون أن يكون هو نفسه غير مؤهل لهذه المناقشة، فيترك ابن زيدان يخرج ما في رأسه من خبث الآراء والأفكار، ويشكك في كل شيء، ويتهم أي شخصية تاريخية، طالما وجد أن مَن يحاوره ما هو إلا «جحشٌ يُرجى لكل غبيط»!