حكايات المصريين مع «المستريحين».. 800 مليون جنيه «خدها النصاب وطار»
الأربعاء، 28 أغسطس 2019 02:00 م
يفضل الكثير من المصريين الاحتفاظ بالأموال السائلة تحت أيديهم، بعيدا عن توظيفها فى مشروعات أو ضخها ضمن المنظومة المصرفية، وهو ما حرم الاقتصاد من تدفقات مالية وفرص تمويلية ضخمة، لكن فى مقابل الفرص المهدرة على الدولة وقطاعات الائتمان والاستثمار، فإن تلك العادة قد تحول إلى كابوس لأصحابها، حينما يقودهم الطمع إلى الوقوع فى قبضة عصابات النصب والاحتيال والمستغلين تحت لافتات توظيف الأموال ونسب الفوائد المرتفعة، ليُراهنوا بأموالهم المخبوءة تحت البلاطة دفعة واحدة، قبل أن يستيقظوا فجأة على الصدمة الكبرى، أنها لم تعد موجودة و»خدها الغراب وطار»!
اللافت أنه قبل عدة سنوات دعت الدولة إلى مشاركة المواطنين فى تمويل مشروع قناة السويس الجديدة، وفى غضون أسبوع تلقت البنوك المُصدرة لشهادات القناة ودائع تجاوزت 64 مليار جنيه، وقتها تندّر المتابعون على الأمر بأنها أموال وثروات كانت تحت البلاطة، وبينما يمكن القول إن حصة منها كانت ودائع أُعيد تدويرها من أوعية ادخارية أخرى لتدخل ضمن الشهادات الجديدة، فإن جانبا كبيرا من تلك الحصيلة الضخمة كان خارجا للتو بالفعل من «تحت البلاطة»!
صور المتهم
عصابات توظيف الأموال
قبل ساعات تفجرت واقعة احتيال فى أحد أحياء الجيزة، كانت حصيلتها أكثر من 160 مليون جنيه، حصل عليها نصاب نجح فى بيع الوهم لمئات الضحايا من الطامعين فى الكسب السهل، لكن تلك الواقعة على ما فيها من تفاصيل مثيرة وأرقام ضخمة، لم تكن الأولى فى مسلسل استغلال المواطنين باسم «توظيف الأموال»، والغريب أن كل تلك الوقائع تقع وتتكرر بالآلية نفسها تقريبا!
يبدأ الأمر بنشاط أحد الأشخاص فى مجال عمل، وإعلانه عن ازدهار كبير فى أنشطته وتحقيق أرباح ضخمة، وقد يُطوّر الأمر إلى الاتفاق مع أحد أصدقائه أو أقاربه على الحديث عن إيداعه أموالا لديه والحصول على فوائد وأرباح مرتفعة، ليبدأ توالى العملاء و«الزبائن» المُخدرين بوهم الربح السريع والسهل، وقتها تتراكم حصيلة الأموال لدى النصاب المحترف، ويُسطّر الضحايا الجملة الأولى فى رحلة معاناتهم الطويلة التى قد تنتهى سريعا أو تمتد شهورا وسنوات، لكنها بالتأكيد ستُسفر عن خسارة فادحة.
عقب اكتشاف المودعين أنهم كانوا ضحايا لنصاب محترف، يبدأ المسار القانونى من خلال المحاضر والبلاغات، وبدورها تضبط الأجهزة الأمنية المتهم، وحال كانت هناك تعاقدات أو أوراق أو إيصالات أمانة تُثبت تلك الودائع يخوض الضحية مسارا طويلا للحصول على أمواله التى لم تعد موجودة، سواء لتهريبها أو إخفائها أو تخزينها فى عقارات بأسماء آخرين، أما حال غياب الوثائق فإن تلك الحقوق تذهب بلا رجعة، وفى كل الأحوال ينفتح الباب على احتمالات عديدة فى صراع قضائى ممتد، يواجه فيه المتهم جرائم النصب والاحتيال وتقاضى أموال بدون حق وممارسة نشاط مصرفى بالمخالفة للقانون، ويواجه الضحايا المجهول!
الأهالى أمام منزل المتهم
800 مليون جنيه فى شهر
فى الشهور الأخيرة تكررت وقائع النصب باسم «توظيف الأموال» عشرات المرات، بدءا من ضبط متهم فى إحدى محافظات الصعيد حصل على عشرات الملايين من ضحاياه، الذين كانوا يُلقّبونه بـ«المستريح»، فى ضوء البذخ والرفاهية اللذين يعيش فيهما، ومن وقتها أصبح هذا اللقب لصيقا بالمتهمين فى تلك النوعية من القضايا، وللأسف بات أحد أكثر الألقاب والتعبيرات تكرارا فى صفحات الحوادث!
قبل واقعة منيل شيحة التى تفجرت تفاصيلها فى الساعات الماضية، شهدت مصر 10 وقائع نصب فى 5 محافظات خلال شهر واحد، تركزت 5 منها فى الغربية وحدها بما يتجاوز 620 مليون جنيه، وكان القاسم المشترك والمتكرر بين كل تلك الوقائع أن نصابا أقنع المواطنين بمنحه أموالهم لقاء فائدة تتراوح بين 25 و40%، وأن ضحايا كُثر أغراهم الطمع والسعى إلى الربح السهل دون عمل أو جهد، فراهنوا بكل ما يملكون على طاولة مثقوبة، شاهدوا بأعينهم وقائع ابتلاعها لأموال طوابير غيرهم خلال الشهور السابقة.
ربما يصعب إحصاء قضايا النصب وتوظيف الأموال وعصابات المستريحين، لكن العودة إلى صفحات الحوادث خلال شهر واحد تكفى لإجلاء الصورة وكشف ما تنطوى عليه من مفارقة، بسقوط مئات من الأطباء والصيادلة والمهندسين والمهنيين والموظفين والتجار ورجال الأعمال فى قبضة تلك العصابات، دون وعى أو تفكير، فى مدينة طنطا على سبيل المثال تلقت الأجهزة الأمنية 242 بلاغا ضد «رضا. ا. ص»، مهندس زراعى، حصيلتها 600 مليون جنيه استولى عليها من عشرات المواطنين زاعما توظيفها ومنحهم أرباحا مرتفعة، وفى سوهاج ضبطت مباحث الأموال العامة شخصا لاستيلائه على 800 ألف جنيه من 5 مواطنين لتوظيفها فى تجارة «كروت شحن» الهواتف المحمولة مقابل أرباح شهرية، كما سقط مسؤول عهدة فى الأقصر لاستيلائه على 13 مليونا و315 ألف جنيه من عشرات المواطنين، نظير توظيفها فى شركة للنقل الجماعى وأعمال المقاولات وقطع الغيار، وأمرت نيابة المنوفية بحبس سيدة 4 أيام بتهمة النصب بعد إيهامها عددا من المواطنين بشراء سيارات من مزادات مصلحة الجمارك، وحصولها على 4 ملايين جنيه مقابل وعود بفائدة شهرية مرتفعة.
فى المنوفية سقط موظف فى إحدى شركات التأمين بعدما جمع 3 ملايين جنيه من تجار فاكهة، وضبطت مباحث الأموال العامة فى الدقهلية صاحب مكتب استيراد وتصدير جمع 9 ملايين جنيه من المواطنين، لتوظيفها فى تجارة الهواتف المحمولة، كما سقط آخر فى طنطا بالغربية لجمعه مليونا و178 ألف جنيه من مواطنين لتوظيفها فى تجارة المحاصيل الزراعية، وتكرر الأمر فى طنطا أيضا بضبط «محمد.ع. و»، مدرس ويقيم فى محلة منوف، لاستيلائه على 500 ألف جنيه من 9 أشخاص لتوظيفها فى تجارة المحاصيل أيضا، وزادت حصيلة الغربية من الضحايا بواقعتين أخريين: الأولى بطلها طبيب بشرى جمع مليونا و837 ألف دولار «أكثر من 31 مليون جنيه» من مواطنى طنطا لتوظيفها فى الاستثمار العقارى، والثانية بطلها مدرس استولى على مليونين و700 ألف جنيه من ضحاياه فى مركز قطور بتوظيفها فى تجارة الحاصلات الزراعية.
صور لايصالات الأمانة
مستريح منيل شيحة
الرصد الواسع لقضايا «المستريحين»، أو عصابات توظيف الأموال مقابل وعود بفائدة شهرية مرتفعة، لا يكشف عن تمايزات أو اختلاف فى الحكايات، فالوقائع تتكرر تقريبا، وما يختلف عدد الضحايا وقيمة المبالغ الضائعة، وهذا الفارق الوحيد الذى يمكن أن ترصده بين مستريح طنطا فى الغربية، ومستريح منيل شيحة بالجيزة.
فى منيل شيحة التابعة لمركز أبوالنمرس وقع آلاف المواطنين ضحية لواقعة نصب ضخمة بطلها «صيدلى»، بعدما نصب شباكه وأغرى عددا كبيرا منهم بالربح السريع، وتوظيف أموالهم فى شركة وهمية لتجارة الأدوية، لكنهم اكتشفوا تعرضهم للنصب وضياع أموالهم بعد فوات الأوان، وهروب المتهم وأسرته، وبسبب «قضية مخدرات».
تفاصيل الواقعة أن الصيدلى «عبد الله. س»، 46 سنة، أقنع أهالى قرية منيل شيحة والقرى المجاورة بتوظف أموالهم لديه مقابل فائدة مرتفعة، وبالفعل استجاب له عدد كبير، وباع آخرون ما يملكونه، ووضعوا كل تلك الأموال فى خزائنه مقابل وعود بـ30%، وظل الأمر هادئا نسبيا حتى سقط فى قضية اتجار فى المواد المخدرة بعد ضبط كمية كبيرة من عقار «ترامادول» فى صيدليته الخاصة، ليُسجن سنة و8 أشهر فى القضية رقم 15815 لسنة 2017 جنايات مركز الجيزة، المقيدة برقم 7266 لسنة 2017 جنايات كلى الجيزة، وطوال مدة سجنه توقف عن دفع الفوائد، ليطالبه الأهالى بعد خروجه منذ 5 أشهر برد أصل الأموال البالغة 165 مليون جنيه، بحسب أقوالهم، أو دفع الفوائد الشهرية المستحقة بانتظام، إلا أنه تهرب منهم ثم اصطحب أسرته وغادر القرية تماما.
ويقول مجدى سمير، أحد أهالى منيل شيحة وضحايا الصيدلى، إنه وشقيقاته الخمس أعطوا المتهم 260 ألف جنيه لتشغيلها منذ 3 سنوات، على أن يحصلوا على 2.5% فائدة شهرية عن إجمالى المبلغ. قائلا: «جمعت مبلغ من سفرى للسعودية ورجعت البلد اشتريت قطعة أرض، وادّيت الدكتور عبد الله 75 ألف جنيه، وإخواتى البنات إدّوا له مبلغ أكبر قبل منى، المتهم جمع أكتر من 100 مليون جنيه من المنطقة، وكان بيشغّل الفلوس مع واحد تانى ما نعرفوض، وبعد تكرار الاتصال بيه قال لنا مش هرد حاجة وفلوسكم خسرت».
أما أسامة مليجى فإن إجمالى أمواله لدى الصيدلى المتهم 500 ألف جنيه، تخصه هو وأقاربه، ويتحدث عن الاتفاق قائلا: «كان متفق معايا على 20% فايدة، وما أخدتش حاجة لحد دلوقتى، واضطريت أرفع قضية بخيانة الأمانة. النصاب ادّعى إن عنده شركة أدوية ومصانع، وما طلعش عنده حاجة، وعرفنا كل ده بعد ما اتحبس فى قضية مخدرات للأسف»، لافتا إلى أنه يملك منزلين وصيدليتين فى القرية، وما تزال عائلته مقيمة فى «منيل شيحة»، وبعدما تعرض أفرادها لإهانات بالغة من الأهالى على خلفية واقعة النصب، قالوا: «هو نصب عليكم، روحوا دوّروا عليه، إحنا اعتبرناه مات». بحسب الأهالى يصل عدد ضحايا «مستريح منيل شيحة» إلى 5 آلاف مواطن خسروا مبالغ مالية متفاوتة، ويقول محمد هداية، أحد الأهالى: إن المتهم يمتلك فيلا على مساحة كبيرة، تضم ملعب تنس وملعبا للكرة الخماسية وصالة بلياردو، متابعا: «عملت جمعيات عشان أجمع 90 ألف جنيه واديتهم له ولسه بسدّد الأقساط، والمفروض كان يدينى 25% فايدة شهرية، لكن ما أخدتش منه غير 2000 جنيه لمدة شهرين قبل ما يتحبس». ويتحدث هداية عن قصة تورطه مع الصيدلى بالمتهم بالقول: «غوانا زى الشيطان، وإحنا طمعنا فى الزيادة اللى وعدنا بيها، أنا ما كانش عندى نيّة أدى له حاجة، بس لما لقيت قرايبى وجيرانى وناس معايا فى الشغل بيتعاملوا معاه قررت أحط فلوسى، وكمان كان فيه ناس شغالة معاه وبتجمع له الزباين بعمولة»، مؤكدا أن حصر للمبالغ بناء على إيصالات الأمانة يصل إلى 165 مليون جنيه، وأن عددا من المتضريين حرروا محاضر بأرقام 9468 و11907 و12002 و12300 و12301 لسنة 2019 جنح مركز الجيزة، وما يزال المتهم هاربا بأموالهم.
صور لايصالات الأمانة