إعمال العقل في غرائب الفتاوى
الإثنين، 27 مايو 2019 12:42 م
ما أن يستظلنا شهر رمضان المبارك إلا وتكثر الفتاوى الخاصة بالصيام، ويحرص المسلمون على تحري رأي الشرع في كل مسألة صغيرة كانت أو كبيرة، وتافهة أو عظيمة؛ حتى يضمنوا سلامة صيام شهرهم.
المسلم به أن المعنيين بالإفتاء لا يدخرون جهدًا في الرد على أي استفسار يَرِدُ إليهم، حتى وإن كان السؤال مكررًا، وسبق الإجابة عنه مئات المرات، وإجابته بالتفصيل موجودة على الموقع الإلكتروني لدار الإفتاء، وغيرها من المواقع الإلكترونية الناشرة للفتاوى صوتًا وصورة.
لكن الملاحظ، في السنوات الأخيرة، تكرار فتاوى بعينها، وأرى أنها تندرج ضمن الفتاوى الشاذة، أو الغريبة، أو- إن شئنا الدقة- فتاوى «الاستهبال» التي يجب على المفتي ألا يشمر ساعده، ويرهق نفسه، ويضيع وقته في الإجابة على سائلها. كالفتاوى المتعلقة بحكم استخدام شطاف المياه، أو حكم استخدام معجون الأسنان، وقطرة الأنف والأذن، والكحل للصائم.. وهل فعل هذه الأمور تُفْطِرُ الصائم أم لا؟
لقد استمعت إلى مفتي الجمهورية السابق، الدكتور علي جمعة، وهو يجيب على سؤال سائل عن حكم استعمال قطرة الأذن والأنف والعين للصائم، وأورد قولين للفقهاء، انتهى فيهما إلى جواز استخدام قطرة العين وعدم تسببها في إفطار مستخدمها في نهار رمضان. بينما أفتى بعدم جواز استخدام قطرتي الأنف والفم للصائم، لأنها تتسبب في إفطاره، حال وصولها إلى جوفه!
والحقيقة أن الرأي والفتيا التي أفتاها فضيلة الدكتور علي جمعة، وغيره من مشايخنا الأفاضل، ليس من عندياتهم، بل بناء على رأي معتبر، موجود في كتب الفقهاء والمجتهدين السابقين، ولكل منهم حجته وأسانيده، التي استنبطوها من القياس، وليس اعتمادًا على نصٍ قرآني صريح، أو حديث نبوي صحيح.
تذكر بعض كتب التراث أن الإمام أبا حنيفة النعمان كان يجلس مع تلامذته في المسجد، مادًا رجليه بسبب آلام في الركبة، فدخل عليه رجل عليه أمارات الوقار والهيبة، فعقص الإمام قدميه وتربع.. فسأله الرجل: متى يفطر الصائم؟ فظن الإمام أن في السؤال مكيدة، فأجابه حذرًا: يفطر إذا غربت الشمس.. فقال الرجل: وإذا لم تغرب الشمس ذلك اليوم، فمتى يُفطر؟!
هنا تكشّفت حقيقة الرجل للإمام، فقال قولته المشهورة: آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه!
المجمع عليه، أن أول ما يجب توافره في الفتوى- كي تكون محلًّا للاعتبار- اعتمادُها على الأدلة الشرعية الصحيحة المعتبرة لدى أهل العلم، وأولها القرآن الكريم، وثانيها سنة النبي- صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتمادًا على غيرهما.
وإذا كانت القاعدة تقول: «كل إنسان يؤخذ منه ويرد، إلا صاحب هذا القبر»، فإننا نرى مراجعة الرأي القائل بوجوب إفطار الصائم المريض، المستخدم لقطرة الأنف أو الأذن ودخلت إلى حلقه، دون إرادة منه، ورغمًا عنه، خاصة إذا ما كان هناك أذى أو ضرر سيلحق بالمريض الصائم، حال عدم انتظامه في استخدام القطرة التي وصفها له الطبيب المشهود له بالثقة.. وهنا لا نقلل من جهد أحد، ومن راي فريق من المجتهدين.. لكننا نقدم أهم مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، ونعلي من قيمته.
فمن المعروف والمستقر في النفوس أن حفظ النفس البشرية، وصيانتها، أهم مقصد من مقاصد الشريعة.. كما أن التيسير على المسلمين مقصدٌ مهمٌ، لا ينبغي إغفاله، أو التقليل منه. فإذا وصف الأطباء الثقات قطرة لمرضى الأنف والأذن، وكان يجب عليهم استخدامها في نهار رمضان، فإن الفطرة السليمة، والاطمئنان القلبي، والعقل والمنطق يميلون إلى «عدم إفطارهم»، واستكمال صومهم، حتى ولو وصلت القطرة إلى الجوف. لماذا؟ لأن القطرة- كما قرر علماء مختصون- ليست «طعامًا أو شرابًا» معتادًا، وليست «فيتامينات»، أو «مقويات» يأخذها الصائم لتعينه على استكمال يوم صومه.. كما أن القطرة لم تدخل من منفذ، أو فتحة، أو محل الأكل والشرب المعتاد.. فضلًا عن عدم ورود نصٍ في الكتاب والسنة بشأنهما.
ولا يفوت على القارئ الأريب، أن ما ينطبق على الأنف والأذن، قد ينطبق أيضًا على الصائم الذي يستخدم «الشطاف»، أثناء قضاء حاجته.. فإذا اندفع ماء الشطاف ودخل في فتحة الشرج، ووصل إلى الأمعاء- مع الأخذ في الاعتبار صعوبة ذلك- فلا يُفطر، إلا إذا كان فعل ذلك «عامدًا متعمدًا»، وساعتئذٍ قد يكون الحكم بإفطاره ليس متعلقًا بدخول المياه إلى جوفه، بل لأمر آخر! فإذا كانت المياه «مابتطلعش في العالي»- كما نقول في أمثالنا الشعبية- فكيف تصل إلى المعدة من فتحة الشرج، وهي محل خروج الخبث؟ اللهم إلا إذا كان دخول المياه في الدبر «متعمدًا»!
إن المتتبع أحكام الشريعة يجدها قائمة على التيسير، والتخفيف، والتسهيل، والتوسعة، والابتعاد عن التضييق، والإعناتِ، والإحراح.. يقول الله- تعالى-في محكم التنزيل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. وفي آية الصيام قال- عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. ومن ذلك قول النبي- صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا...».
اختصارًا، ومن باب «التيسير» العظيم في الشريعة، نرى ونؤيد الرأي الفقهي القائل بعدم إفطار مستخدم قطرة الأنف والأذن والعين، والمستخدم «الطبيعي» للشطاف، والمستخدم «الطبيعي» لمعجون الأسنان، والكحل للعين، والاستحمام في نهار رمضان.. فالإسلام براح، لكن بعض الفقهاء يضيقوه علينا.. والدين فسيح، لكن أخشى أن نكون- بتوافه أسئلتنا- كبني إسرائيل، عندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، فجادلوا، وتسفسطوا وضيقوا على أنفسهم، حتى «ذبحوها وما كادوا يفعلون»!
في كتابه الماتع «مقاصد الشريعة الإسلامية»، يقول الطاهر بن عاشور: الضابط الخامس: تيسير الفتوى: لقد فطرَ اللهُ سبحانه وتعالى الإنسانَ على حُبِّ التيسيرِ والسَّعةِ، وكراهةِ العسرِ والحرجِ، ولا شكَّ أن من خصائصِ الشريعةِ الإسلاميةِ السماحةَ واليسرَ ورفعَ الحرجِ؛ حتى ذكر العلماء أن الأدلةَ على رفعِ الحرجِ في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع.