«الدرفلة» فيها سم قاتل.. كيف يقضي أحد كبار صناع الحديد على مستقبل القطاع الأكبر فى مصر؟
الأربعاء، 22 مايو 2019 11:09 م
كانت وما زالت تمثل صناعة الحديد واحدة من أهم وأقوى الصناعات الاستراتيجية التي تعتمد عليها الاقتصاديات الكبرى في تحقيق عملية النمو والنهضة الشاملة، كما يقاس بها نهضة الأمم، وفي مصر كانت تشهد هذه الصناعة حتى عام 2008 ازدهاراً ونمواً لا تغفله عين ولا ينكره إلا جاحد، حتى قررت فجأة حكومة الدكتور أحمد نظيف الوصول بالرسوم الجمركية على واردات الصلب إلى صفر بالمائة، ووضع المنتجين المحليين فى منافسة مباشرة مع أسواق عالمية تتوفر لديها مزايا تنافسية ربما لا تتوفر فى مصر.
عاشت صناعة الصلب الوطنية محنة حقيقية، بعد هذا القرار، وراحت «الورش الفنية» تتضاعف أعدادها ويتوسع نشاطها على حساب الصناعة المحلية القومية، فهذه الورش تنفذ عملية صناعية واحدة لا تتضمن أى معالجة أو تكنولوجيا معقدة، وإنما تنحصر فى السبك والتشكيل وإعداد الصورة النهائية للمنتج قبل طرحه فى الأسواق، واستمر الأمرعلى تلك الحالة لأكثر من تسع سنوات، عانت فيها الصناعة الوطنية مشكلات حقيقية تتعلق بارتفاع فاتورة الإنتاج، وتراجع القدرة على المنافسة فى سباق غير عادل بالمرة، حتى جاء قرار وزير الصناعة في ديسمبر 2017، لتصحيح هذه الأوضاع، حيث نص القرار على فرض رسوم إغراق نهائية لمدة 5 سنوات على واردات الحديد من الصين وتركيا وأوكرانيا.
صاحب ذلك القرار ضجة كبيرة من قبل بعض العاملين في هذا المجال، خاصة المستثمرين الذين لجأوا خلال الفترة الماضية إلى تحقيق مكاسب كبرى عن طريق استيراد منتجات صلب غير تامة الصنع، وتنفيذ مرحلة الإنتاج الرابعة فقط، وهي الدرفلة والتشكيل في مصانع محلية بدائية وقليلة التكلفة الاستثمارية، وطرحها في الأسواق، وعليها العلامة التجارية لهؤلاء المستثمرين، الذين يقدمون أنفسهم على أنهم كبار في صناعة الحديد، ويحملون همها، ويشغلون بالهم بتطويرها والنهوض بها من عثرتها، إلا أنهم في الحقيقة لا يبحثون سوى عن الاستفادة من فروق الأسعار وقلة تكلفة الإنتاج.
وبدا واضحاً من الضجة المثارة حول هذا القرار ومطالبات بعض العاملين في مجال تصنيع الحديد بوقف تنفيذ القرار، أن هناك انحياز للممارسات غير العادلة التي تحقق المصالح الشخصية أكثر من الانحياز للصناعة الوطنية، لاسيما أن مصانع هولاء تنجز عمليات الإنتاج المتكامل للصلب، وأبقوا على خطوط الدرفلة، أو استوردوا خطوط إنتاج قديمة ومتهالكة من بعض دول شرقى أوروبا، لتدشين مصانع درفلة جديدة.
الواقع يقول إن تكلفة إنتاج طن الحديد من خلال مصانع الدرفلة تقل بنسبة 40 % عن مثيلتها فى المصانع المتكاملة، التى تقدم 4 أضعاف القيمة المضافة التى يوفرها نشاط الدرفلة وتشكيل البليت، لكنها تتحمل أعباء تزيد ثلاث مرات عنها، بسبب ارتفاع كثافة العمالة وكُلفة التشغيل قرابة 7 أضعاف، واستيراد التكنولوجيا الصناعية والأفران المتطورة. ووفق تلك التركيبة فإن المصانع المتكاملة لا يمكنها النزول بسعر المنتج عن مستوياته الحالية عند 11 ألفا و650 جنيها تقريبا للطن، بهامش ضئيل صعودا وهبوطا، فى حين يمكن لمصانع الدرفلة بيع الطن بسعر أقل 20 % من ذلك مع تحقيق أرباح تصل بالنسبة لبعض المستوردين والمنتجين إلى 150 %، وذلك بفضل عمليات المضاربة التى تحدث فى سوق البليت والمنتجات شبه المصنعة عالميا، واستغلال المستوردين المحليين للضغوط الدولية على القطاع عقب فرض الولايات المتحدة وأوروبا رسوم إغراق على وارداتها من الصلب، لاستقطاب ملايين الأطنان من التدفقات الرخيصة التى يبادر أصحابها بالتخلص منها وإبرام صفقات سريعة عليها فى عرض البحر، تجنبا لتكلفة إعادتها إلى بلد المنشأ أو تحمل فاتورة أكبر فى عمليات النقل والتفريغ وإعادة الشحن.
مصادر مطلعة بهذا القطاع، قالت إن أحد كبار الناشطين فى سوق الدرفلة والسمسرة في البليت واستقطاب الرواكد العالمية المتضررة من الإجراءات الحمائية فى بعض البلدان، تخلص من مصنعه الضخم لإنجاز عمليات التصنيع المتكاملة بمراحلها الأربع، لصالح الرهان على نشاط الدرفلة وتشكيل البليت والمنتجات شبه المصنعة، والآن يُحقق أرباحا تتجاوز 150 % من أعبائه الاستثمارية سنويا، وبسبب تلك المكاسب الضخمة فإنه قاد حملة شرسة للهجوم على قرار وزير الصناعة والتجارة الأخير بفرض رسوم حمائية بنسبة 15 % على واردات البليت و25 % على حديد التسليح لمدة ستة أشهر، رغم صدور القرار عقب دراسات وتحقيقات مبدئية مستفيضة، وبالتنسيق مع منظمة التجارة العالمية، التى أقرت الأمر بعدما تأكدت من وجود ممارسات إغراقية وغير عادلة تهدد صناعة الحديد فى مصر.
مسلسل الإهدار والنزيف المفتوح فى قطاع صناعة الصلب تسبب خلال الفترة الأخيرة فى إغلاق أحد المصانع الكبرى وإنهاء أعماله المتكاملة، بينما قلصت مصانع أخرى نشاطها وأوقفت بعض خطوطها مؤقتا أو عطلت نسبة كبيرة من قدراتها الإنتاجية، وإلى جانب تلك الإجراءات الضاغطة تزايدت معدلات الركود فى حركة البيع ليصل المخزون إلى 400 % خلال النصف الثانى من 2018، مقارنة بمستويات المخزون فى النصف الأول من 2017، وبالنظر إلى إجمالى إنتاج المصانع المتكاملة الذى يقارب 4 ملايين طن سنويا، فإن المشهد يبدو قاتما فى الوقت الذى لا يزيد فيه حجم صادرات الحديد المصرية على 600 مليون دولار، توازى أقل من مليون طن، وهذا المشهد يعنى أن قرابة 30 ألف عامل وعشرات من خطوط الإنتاج واستثمارات تتجاوز 100 مليار جنيه، تقف عارية فى مواجهة رياح عاتية لا ترتبط بأية رؤية أو استراتيجية منحازة للصناعة الوطنية، قدر إخلاصها الشديد والغريب لمصالح عدد ضئيل من السماسرة والمضاربين وأصحاب ورش الدرفلة.
هؤلاء الذين انتصبوا للهجوم على قرار وزير الصناعة، أثبتت تحقيقات جهاز وزارة الصناعة انحرافهم وإغراقهم السوق المحلية بتدفقات ضخمة من الواردات، بصورة غير عادلة وتخل بالتنافسية وفرص المصنعين المحليين، وتجلت أبرز المؤشرات الصادمة عن تلك الممارسات فى زيادة الواردات 30 % خلال النصف الأول من 2018 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، وتحقيق زيادة مماثلة بـ30 % فى النصف الثانى من العام الماضى، ما أسفر عن زيادة حصة الواردات 20 % مقابل تناقص الحصة السوقية للمصانع الوطنية المتكاملة 10 %. وبسبب تلك التبدلات الحادة فى حالة السوق سجلت شركات صناعة الصلب خسائر إجمالية تجاوزت 120 % فى النصف الثانى من 2018 مقارنة بأول 6 أشهر من 2017، وبدا واضحا من النتائج والاستخلاصات التى توصلت إليها التحقيقات أن المشهد آخذ فى التعقد، وأن نزيف الصناعة المحلية قد يمتد مع تنامى ممارسات المضاربين والسماسرة وأصحاب ورش الدرفلة.
التحقيقات المدعمة بالأدلة الدامغة التي توصلت إليها وزارة الصناعة، كانت سببا فى إعداد الوزارة مذكرة رسمية لمنظمة التجارة العالمية خلال الأسبوع الأول من إبريل الماضي، قالت فيها إن مصر تعانى من ممارسات إغراقية وتدفقات ضخمة من الصلب تهدد الصناعة المحلية، وفى ضوء تلك الإجراءات أصدر المهندس طارق الملا قراره السبت 13 إبريل الجارى بفرض رسوم حمائية مؤقتة لمدة 180 يوما بواقع 15 % على واردات البليت، و25 على واردات حديد التسليح، لحين انتهاء التحقيقات والتوصل إلى نتائج وإجراءات نهائية بشأن تلك الممارسات المشبوهة وعمليات السمسرة والتربح التى تمارسها عشرات من شركات الاستيراد ومصانع وورش الدرفلة.