الدنيا ربيع والجو بديع
الأحد، 28 أبريل 2019 11:28 م
شم النسيم من أقدم الأعياد التي يحتفل بها المصريين مع إشراقة شمس الأثنين التالي مباشرة ليوم أحد القيامة المجيد، وهو ليس فقط أقدم احتفال شعبى فى تاريخ الإنسانية تداخلت فيه المعتقدات المصرية القديمة مع تعاليم الديانات السماوية الثلاثة في أطار عبقري على نحو يليق بتاريخ مصر وتراثها، واستمر عبر أكثر من خمسة الآف عام ينتقل من جيل لأخر بذات الطقوس والعادات والتقاليد والتفاصيل، بل هو أسطورة وسيمفونية فرعونية برهنت علي قدرة الهوية المصرية علي الصمود في وجه كل من يحاول العبث بالثوابت المتأصلة في الوجدان المصري، حتي أن استطاع طمسه لبعض الوقت، فما تلبث أن تنهض وتعلن عن نفسها أمام المحاولات الهدامه.
شم النسيم عيد مختلف له خصيوصية شديدة عن باقي الأعياد الوطنية والدينية، فهو هو العيد الأكثر زخما ويجمع شمل كل المصريين باختلاف طبقاتهم الاجتماعية وانتماءاتهم السياسية، والأهم أنه يجمع بين مختلفي العقائد والمذاهب الدينية، فهو العيد الذى يوحد بين الجميع في كيان واحد متجانس بطريقة تثير الإعجاب والدهشة في آن واحد، فعلي امتداد الآف السنين وفي نفس اليوم يحتفل به الأحفاد بذات طقوس الأجداد في شكل يشبه الاعياد القومية الكرنفالية.
هو رمز للعيد المصرى الخالص والخاص بهم، فقط الذي يشبههم ولا يشبه غيرهم خرج من رحم الطبيعة المصرية ليتأصل في الوجدان ليس كمورث حضاري اجتماعي، لكن كجزء من التركيبة الجينية للمصريين، وتفاعل غريب بين المصريين وهذا العيد الذي يؤرخ له مع نشاة الإنسانية، وعلي بساطته إلا أنه يعكس عبقرية فريدة في الحفاظ على الهوية المصرية المتفردة التي لم يستطع أحد أن يغيرها او يهزمها.
مصر استوعبت كل الثقافات الوافدة المتعاقبة عبر تاريخها، التي انصهرت داخل هوامش خصوصيتها الحضارية، فهي الأقوى والأعمق ذهنيا وعلميا وحضاريا، وهى لا تتغير بل كانت تـمصر كل جديد وتبتلعه وتهضمه وتشكله وتفرزه ليكون فى النهاية منتج مصرى صميم، لذلك لم تستطع الموجات الاستعمارية التي توالت علي مصر أن تقهر الهوية المصرية، فقد شكلت حائط صد منيع ضد كل من حاول الاقتراب من مفرداتها الحضارية.
حتى الدين مصرته، فعندما اعتنق المصريون المسيحية أخرجوا منه نسختهم القبطية الخاصة بلون مصريتهمن وعندما دخل الإسلام مصر اعتنقه المصريين بخلفيتهم الحضارية، فقراءو القرآن بلهجة مصرية خالصة، وطبقت تعاليم الدين الاسلامي في اطار خصوصيتهم ومخزونهم الحضاري، وهو سر أسرار الشخصية المصرية التي استجابت للمتغيرات، لكن في اطار مغلف من الخصوصية شديدة التفرد، فجمعت الهوية المصرية الفرعونية الاصل علي امتدادها التاريخي بين مختلف الثقافات والديانات، وكونت كل هذه التنويعات الحضارية مخزون انساني افرز لنا شخصية ذات طابع متميز متماسك، يصعب بل يستحيل تشابهه واستطاعت أن تتخطى الفوارق العقائدية والعرقية في دلالة واضحة علي عمق تراثها الثري، الذي حفظ لها طبيعتها المتميزة غير القابلة للتكرار او النسخ حتي لو أصابها الوهن، وهي واحدة من تجليات العبقرية المصرية التي تفسر عظمة الشخصية المصرية المحبة للحياة والبهجة، والمتفردة بحالة إنسانية ووجدانية خاصة جدا.. كل عام وأنتم بخير.