ماذا لو أن الدكتور عمرو نصار، وزير الصناعة قرر أن يكمل مسيرة كثير من سابقيه، ويكتفي بمنظر المشاهد الممصمص شفاهه على حال الصناعة الوطنية، ملوحاً بيده لمساعديه بأنه لا شيء يمكن تقديمه لانتشال قطاعات صناعية كبيرة من عثرتها وسقطتها، فالأمر أكبر منهم ومن هم فوقهم، فالمافيا في قبضتها شعب تتعامل معه على أنه رهينة، قطعاً كان سيجنب الرجل نفسه هذا الصراخ والعويل الذي لا يتوقف على مدار الـ 48 ساعة الماضية، كان الرجل في غنى تام عن ذلك الهجوم الآتي من كل حدب وصوب على مدار الـ48 ساعة.
لم يشتر الدكتور عمرو نصار «دماغه»، وقرر أن يسمي الله ويقتحم عش الدبابير، متسلحاً بما وصله من معلومات مؤكدة، وتقارير لا تنقصها الدقة أو الشفافية، تشير إلى أن هناك صناعة مصرية استراتيجية، أوشك سرطان «الاستيراد» أن يوجه لها الضربة الأخيرة. فزع «نصار» لخطورة الموقف، ودون أن يتردد اتخذ ما رآه مناسباً وحتمياً، لحماية صناعة الحديد والصلب.
الضجة التي أحدثها قرار وزير الصناعة رقم 346 لسنة 2019 بفرض تدابير وقائية مؤقتة على الواردات من صنف حديد التسليح، أسياخ وقضبان وعيدان، منتجات جاهزة من حديد أو صلب من غير الخلائط، كانت متوقعة، فالصناعة المحلية التي قاربت على الاندثار، بفضل منافسة غير عادلة خلقها غير المأسوف على رحيله أحمد نظيف، استفاد منها أباطرة كبار، خلقوا ثروات من العدم، وراحت تلك الثروات تتعاظم شيئاً فشيئاً، حتى باتت مكاسبهم تقاس بالساعة لا بالشهر ولا حتى باليوم.
لم يكن غريباً ولا مفاجئاً للمتخصصين والدارسين والعارفين ببواطن سوق هذه الصناعة الثقيلة الاستراتيجية، الصريخ والعويل الصادر من بعض العاملين بعمد وبدون عمد على تخريب هذه الصناعة المهمة للاقتصاد المصري وأي اقتصاد في العالم يستهدف النمو، فكل الوزراء الذين لوحوا باتخاذ قرارات مماثلة أقيمت لهم مشانق لم تفك بعد، وهددت مسيرتهم حتى تراجعوا، وأغلقوا ذلك الملف بحجة مطاطية ألا وهي «الدراسة» لعدم الإخلال بمصالح أي من العاملين في هذه الصناعة.
قرار الدكتور عمرو نصار، ما هو إلا خطوة في طريق إعادة صناعة الحديد المصري إلى مكانتها الطبيعية، بعدما عاشته من معاناة حقيقية، في ظل التدفق الذي لا يتوقف من واردات الحديد تامة الصنع، أو شبه المصنعة، والتي لا تحتاج سوى لورشة صغيرة، يتم تشكيل المنتج بداخلها قبل عرضه بالأسواق، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة الانتاج بشكل جنوني، دفع كثيرون إلى إغلاق مصانعهم، والاتجاه إلى عملية استيراد المنتجات شبه المصنعة، أو العدول عن العمل في الصناعة بأسرها.
الباكون من قرار وزير الصناعة الدكتور عمرو نصار، هم أنفسهم من قاموا بالتحايل على قرار سابقه الدكتور طارق قابيل، والذي صدر في نهاية 2017، لينص على فرض رسوم إغراق نهائية لمدة 5 سنوات على واردات الحديد من الصين وتركيا وأوكرانيا، فقام أصحاب المصانع الصغيرة والورش الفنية إلى استيراتد منتدات صلب غير مكتملة، وتنفيذ مرحلة الإنتاج الرابعة فقط الدرفلة والتشكيل، في مصانعهم، مما قلل من تكلفة التصنيع، فتحقق لهم الاستفادة من فرق السعر، في ظل ارتفاع أسعار الحديد المحلي، العالي تكلفة، نظراً لاستيراد كل مدخلات الصناعة باستثناء الأيدي العاملة، فمصانع الحديد المصرية تستورد المادة الخام، وكل خطوط الانتاج، والتكنولوجيا المستخدمة في كل مصنع على حدة.
الغاضبون من قرار الدكتور عمرو نصار، روجوا لأن قرار رسوم الحماية يحمي أصحاب المصانع الكبرى ويهدد بغلق باقي المصانع، ويشجع على الاحتكار، واختتموا بالتلويح بأن القرار سيرفع أسعار الحديد 20%، وهنا لا بد من توضيح أن ارتفاع أسعار الحديد المصري، والفرق بينه وبين الحديد المستورد، يرجع إلى عدة أمور، أهمها أن تكلفة انتاج الحديد من خلال مصانع الدرفلة، يقل بنسبة 40% عن انتاج الحديد في المصانع الكاملة، فضلاً عن أن هذه المصانه تتحمل أعباء العمالة التي تصل إلى ثلاثة أضعاف العمالة الموجود ف مصانع الدرفلة، وكذلك تكلفة التشغيل، التي تصل إلى 7 أضعاف الانتاج في مصانع الدرفلة، واستيراد التكنولوجيا الصناعية والأفران المتطورة، مما يجعل كثيرون من القائمين على هذه المصانع الكاملة، يقسمون على أنهم لا يملكون النزول بسعر الحديد في ظل هذه المرحلة، نظراً لضآلة هامش الربح المحقق لهم، بينما تحقق مصانع الدرفلة أرباح تتخطى عند بعض المستوردين حاجز الـ150 %.
لولا تدخل الحكومة المصرية لحماية هذه الصناعة بقرارات مماثلة لقرار الدكتور عمر نصار الأخير، لتضاعفت عملية الاستيراد، وتفشت الظاهرة الخبيثة، وباتت الصناعة أمراً ثانوياً لا قيمة لها، ولا سيما أ،ه هناك مصانع أخرى نشاطها وأوقفت بعض خطوطها مؤقتا أو عطلت نسبة كبيرة من قدراتها الإنتاجية،
لم يستيقيظ الدكتور عمرو نصار، فوجد نفسه يعيش حالة نفسية سيءة، فقرر اتخاذ هذا القرار، بل أنه هناك عملية دراسة وتحقيق شاملة بدأت في 201 حتى مطلع عام 2019، وثبت بالأدلة القاطعة، عمد بعض العاملين بسوق الحديد إلى إغراق السوق بمنتجات مستوردة، تخل بميزان السوق والصناعة المحلية، وكذلك التنافسية التجارية.
في 2018، وصل مؤشر الخطر إلى أعلى درجاته، فأفادت التقارير أن عملية استيراد زادت 30% عن العام الماضي، مما كلف السوق المحلية خفض 10% من حصتها، فسجلت شركات الحديد والصلب خسائر قدرت بـ 120% في هذا العام مقارنة بالعام الماضي، ومن هنا نادى كبار المصنعون بضرورة التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
قرار الدكتور عمرو نصار ليس قرارا فردياً، كما يحب أن يصور كثير من أصخاب مصانع الدرفلة والورش الفنية، فالرجل قبل أسبوع من إصداره القرار الذي هو حق أصيل له، طالما أنه لا يتعارض مع بنود أي اتافقية تجارية دولية موقعة عليها مصر، كان قد أعد مذكرة رسمية لمنظمة التجارة العالمية، قال فيها إن مصر تعانى من ممارسات إغراقية وتدفقات ضخمة من الصلب تهدد الصناعة المحلية، وفى ضوء ذلك فالحكومة المصرية تنوي فرض رسوم حمائية مؤقتة لمدة 180 يوما بواقع 15 % على واردات البليت، و25 على واردات حديد التسليح، لحين انتهاء التحقيقات والتوصل إلى نتائج وإجراءات نهائية بشأن تلك الممارسات المشبوهة وعمليات السمسرة والتربح التى تمارسها عشرات من شركات الاستيراد ومصانع وورش الدرفلة، ونشرت منظمة التجارة العالمية نص هذه المذكرة، مقرة حق الحكومة المصرية في اتخاذ ما تراه مناسباً لحماية صناعتها الوطنية، وكأنها تقول للدكتور عمرو نصار، الضارب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بمقدرات الصناعة الوطنية: «جدع يا باشا».