هفوات «شيرين» تطرح السؤال القديم: لماذا اختفت صداقات الفنانين؟
السبت، 30 مارس 2019 05:00 م عادل السنهوري يكتب..
- حليم ارتبط بإحسان عبدالقدوس وكامل الشناوى وأنيس منصور ومصطفى أمين وهيكل
- حليم كان يمتلك مكتبة كبيرة داخل منزله بالزمالك، ويفضل قراءة نجيب محفوظ وإدريس والسباعي وأنيس منصور
- محمد رشدى تبناه رجاء النقاش وإحسان ومحمد جلال.. والزعيم عادل إمام تعلم وتربى على أيدى الأساتذة فى الفن والأدب والسياسة
- عبدالوهاب تربى فى كرمة أمير الشعراء أحمد شوقى.. وأم كلثوم يعتبرها المؤرخون «ملكة الثقافة المصرية»
- نجومنا وعمالقة الفن القدامى أيضا لم يكونوا مجرد أصوات تؤدى أو تغنى لحنا على المسرح فقط وانما كانوا مؤسسات ثقافية وإنسانية تتحرك على قدمين
- حليم كان يمتلك مكتبة كبيرة داخل منزله بالزمالك، ويفضل قراءة نجيب محفوظ وإدريس والسباعي وأنيس منصور
- محمد رشدى تبناه رجاء النقاش وإحسان ومحمد جلال.. والزعيم عادل إمام تعلم وتربى على أيدى الأساتذة فى الفن والأدب والسياسة
- عبدالوهاب تربى فى كرمة أمير الشعراء أحمد شوقى.. وأم كلثوم يعتبرها المؤرخون «ملكة الثقافة المصرية»
- نجومنا وعمالقة الفن القدامى أيضا لم يكونوا مجرد أصوات تؤدى أو تغنى لحنا على المسرح فقط وانما كانوا مؤسسات ثقافية وإنسانية تتحرك على قدمين
التصريحات المثيرة للجدل لبعض الفنانين والتى تصدر عنهم بعفوية أو دون قصد فتؤدى إلى توريطهم وإثارة الرأى العام عليهم والتأثير على نجوميتهم ورصيدهم لدى الناس رغم الموهبة الفنية التى يتمتعون بها.. وآخر هؤلاء الفنانين هى الفنانة صاحبة الصوت الجميل شيرين عبدالوهاب، التى تسببت فى ضجة إعلامية بعد تصريحها خلال حفلة غنائية فى البحرين.
شيرين اعتذرت بعد ذلك.. ولكن عليها كنجمة أن تدرك أن الفنان أصبح قدوة لملايين معجبة به وتستمع إليه وكل كلمة وتصرف محسوب عليه أو له، وهذه المواقف من فنانى الجيل الحالى وربما الجيل السابق إلا قليلا جدا منهم (محمد منير من هذا القليل)، تطرح مسألة مهمة للغاية وهى نوعية المحيطين بهذا النجم من الأصحاب والأصدقاء الذين يربونه فكريا وسلوكيا.
المسألة الأخرى المهمة أيضا هى هل يقرأ فنانو الجيل الحالى؟ وما نوع هذه القراءة والاطلاع حتى تتشكل لديهم رؤى خاصة فى قضايا المجتمع المحيط بهم بما يؤثر إيجابيا بصقل الموهبة والشخصية الفنية لهم؟
عن نفسى لا أعرف من يحيط بالفنانة شيرين وأبناء جيلها من الفنانين، فالفنان ليس مجرد صوت أو أداء تمثيلى فقط وإنما هو مؤسسة إنسانية فى حد ذاته من خلال تكوينه النفسى والفكرى والثقافى، ومن حيث طبيعة علاقاته خارج عمله الفنى، وهذه المؤسسة ملك لمعجبيه ومريديه ومحبيه، وأضرب هنا مثلا بالزعيم الفنى الكبير الفنان المبدع عادل إمام، الذى ما زال يتربع على عرش السينما والدراما منذ أكثر من نصف قرن- أطال الله فى عمره - فقد تبناه كبار الأساتذة فى الفن والأدب وتربى فى وسطهم وعلى أيديهم، أمثال الراحل فؤاد المهندس وفطين عبدالوهاب والمفكر الكبير الراحل رجاء النقاش ثم امتدت علاقاته وصولا إلى الأستاذ الراحل محمد حسنين هيكل .. وما أعرفه عنه حبه ونهمه للقراءة فى شتى العلوم الانسانية.. ولولا ذلك ما بقى واستمر عادل إمام الزعيم فنانا وإنسانا.
نجومنا وعمالقة الفن القدامى أيضا لم يكونوا مجرد أصوات تؤدى أو تغنى لحنا على المسرح فقط وانما كانوا مؤسسات ثقافية وإنسانية تتحرك على قدمين .. فيكفى أن نذكر فقط علاقة الموسيقار محمد عبدالوهاب بأمير الشعراء أحمد شوقى وكيف تبناه وعلمه خلال زياراته فى بيته كرمة بن هانئ وهو اسم منزل أمير الشعراء بالجيزة الآن.
أما عن كوكب الشرق «الست» أم كلثوم.. فحدث ولا حرج .. والحديث يطول، فالمؤرخون الموسيقيون وغيرهم يعتبرونها «ملكة الثقافة المصرية»، ويراها الملايين فى أنحاء العالم رمزا للثقافتين المصرية والعربية الحديثتين، وأطلقت عليها الباحثة الأمريكية فرجينيا دنيالسون «صوت الأمة»، وتوّجها محبوها بألقاب مثل «كوكب الشرق»، و«الست»، و «الهرم الرابع»، وسمّى الآباء بناتهم على اسمها، وفى عدادهم الأديب نجيب محفوظ وزوجته.
وفى رحلاتها إلى العالم العربى استقبلها رؤساء وملوك فى المطارات، وكان التقدير الذى حظيت به تقديرا لزعيمة، وصورتها، التى أصبحت أيقونة ثقافية.
أما العندليب عبدالحليم حافظ فتعالوا نتعرف عليه كقارئ ومثقف وصاحب صداقات متنوعة ومتعددة فى الوسط الصحفى والفنى والسياسى، حليم كما ذكر من أجروا معه الحوارات الصحفية قبل وفاته مثل المبدعة إيريس نظمى فى مجلة الكواكب قبل منتصف السبعينات بقليل لم يكن يفوت الجرائد اليومية، الأهرام والأخبار والجمهورية، وبعيدا عن ذلك كان مهتما أيضا بالقراءة فى الصباح والمساء ساعة أو ساعتين يوميا، كما عرف عنه أنه كان يمتلك حسا نقديا عاليا، يتحدث الأدباء عنه ويسهبون فى التعليق على إبداعه لكنه أيضا صاحب رأى ينم عن ثقافة تأسست من علاقته القوية بعمالقة الأدب فى عصره.
تجربة عبدالحليم أيضا فى الكتابة تكشف مدى قدرته على التنوع فى الثقافة والتعبير عما مر به من سنوات «اليتم» والصعود إلى المجد، لذا لم تكن تدخلات «العندليب» فى كتابة سيناريوهات الأفلام أو تغيير بعض كلمات أغانية أمرا ينم عن تحكم بقدر ما يدل على موهبة فى تذوق ما يقرأ ويكتب ويغني أو حتى يسمع.
حليم كان يمتلك مكتبة كبيرة داخل منزله بالزمالك، كان يفضل قراءة نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعى ومصطفى محمود وأنيس منصور وتولستوى فى الأدب الروسى ويقدم رؤيته فى أدب وكتابات كل أديب، فيرى فى أدب محفوظ: «يحارب الفقر بأغنى أسلوب.. كل التصرفات الشاذة لأبطال قصصه مرجعها الفقر.. تريد مثالا؟.. (القاهرة الجديدة) التى ظهرت على الشاشة باسم (القاهرة 30) بطلها شاب فقير جدا، اضطر أن يكون انتهازيا ليصل.. إن انحلاله بسبب الفقر».
ويتحدث العندليب الأسمر عن «يوسف إدريس» ويقول: «كمسرحي.. مصدر ممتاز للبيئة والشخصيات الثابتة من هذه البيئة، وعن صديقه إحسان عبدالقدوس، يرى عبدالحليم فيه «كاتب عصرى يناقش مشاكل الشباب ويدلى برأيه فيها بوضوح، وهو ليس كاتبا جنسيا، ولكنه مرآة تنعكس عليها حقائق قد تؤلم الكثيرين، ولكننا إذا كسرنا المرآة فلن نرى الحقيقة».
وفى أيام عبدالناصر اقترب عبدالحليم من الكاتب محمد حسنين هيكل، وكان يحرص على أن يرسل له أسطواناته الجديدة وخاصة الأغانى الوطنية، وكان حليم مع هذا العقل المفكر يجلس مستمعا يصغى ويلتقط، وكان جهاز التقاطه بارعا يشبه مذيعة ذكية تلتقط أفكار المعد وحينما تفكر أمام المشاهد تبدو وكأنها من بنات أفكارها.
عندما كان عبدالحليم يزور هيكل فى مكتبه يجلس ويستمع للمناقشات الدائرة، فإذا استعصى عليه شىء رفع إصبعه كالتلميذ فيرد عليه هيكل بلهجته الخاطفة «أيوه يا عبدالحليم.. إيه اللى شايفة عويص عليك؟» فيقول عبدالحليم «النقطة الفلانية» فيبدأ هيكل فى شرحها، ويستوعب عبدالحليم ما سمعه بوعى تام، وذلك حسبما ذكر الكاتب مفيد فوزى فى كتابه «صديقى الموعود بالعذاب».
استفاد عبدالحليم حافظ من صداقة هؤلاء المثقفين وتشرب أفكارهم فأخذ من إحسان عبدالقدوس نبض العصر، وأحمد بهاء الدين أهداه كيفية التفكير ويهديه كتبا يتفاعل معها، أما فتحى غانم فقد أعطاه النصح المخلص، وحسن فؤاد أعطاه الأمل والتفاؤل، وقال عبدالحليم عنه «جواهرجى يلتقط المعدن ويصوغه»، كما أنه وصف على أمين بأنه بئر أسرار أكثر من مصطفى أمين لأن الصحفى فى مصطفى أمين أعلى نبرة.
حتى الفنان الجميل -بلدياتى- محمد رشدى أحد أبناء ثورة يوليو ، وأحد الذين عاشوا واستفادوا من التغيير الاجتماعى والثقافى والسياسى والفنى الذى احدثته الثورة بشكل كبير، وربما هذا ما دفعه لغناء ملحمة أدهم الشرقاوى، التى قدّمت صورة البطل المقاوِم للإنجليز والإقطاعيين والمدافع عن الخير، والمهموم بإعادة الحق للفقراء، وهى نفسها الصورة التى رسمها الضباط الأحرار لأنفسهم، وخاصة الزعيم «جمال عبدالناصر»، كانت تلك هى الفترة الذهبية لإعادة كتابة التراث بما يناسب الترتيب السياسى الجديد، لهذا ظهر أدهم الشرقاوى بصورة البطل؛ مع أن الروايات التاريخية حكت عنه بوصفه قاطع طريق.
فى هذه الأيام ومع بداية بزوغ نجم رشدى التقطه المثقفون فى زمنه أمثال رجاء النقاش واحسان عبدالقدوس ومحمد جلال، كان يجرى إعداد رشدى من قبل مثقفى الستينات، ليكون ممثلهم بعد أحداث الثورة. ربما كان ذلك نابعا من إيمانهم أنه الصوت الأفضل لتمثيل المصريين، والأنسب للمرحلة وما فيها من شعارات الثورة والمساواة والعدل والأرض. وربما كان عائدا لرغبة فى محاربة عبدالحليم حافظ المطرب الرسمى للدولة- أو هكذا كانوا ينظرون اليه-.
تطابقت رغبة رشدى مع رغبة المثقفين، وبدأ يحاول الحديث مثلهم. فنجده يتفوّه فى الحوار الأول، بالعديد من المصطلحات والجمل الإنشائية، التى يبدو أنها غُرِزت حديثًا فى رأسه، محاولا التمرد على صورة الفلاح البسيط المرتبك الذى ينادى المذيعة بـ «ست ليلى»، لتخرج منه جمل أقرب للاقتباسات المحفوظة من الكتب، كأنها ملّقنة من أحد مثقفى تلك الفترة.
فى لقاءاته الصحفية يتحدث عن تلك الفترة بشكل أكثر صراحة، ويذكر أسماء من قاموا بتوجيهه، كإحسان عبدالقدوس ورجاء النقاش، حيث أقنعوه أنه مطرب هذه المرحلة، متعللين بأن المرحلة جديدة سياسيا واجتماعيا وتحتاج لشكل أغنية جديد، حاول رشدى الانسياق لدوره المتخيَّل، وبدأ يقرأ روايات وكتب أدبية وثقافية، كى يواكب هذه المرحلة الجديدة التى لا يعلم عن أبعادها شيئا، غير محاولته مطاردة النجاح.
سجن رشدى نفسه فى البدايات فى صورة ابن القرية البسيط، لدرجة أنه كان يخاف الناس ويبعد عنهم، لم يدخل بيته ملحّن أو شاعر، وكانت حياته بعيدة عن الحياة الفنية بكل ما فيها، سيحاول فيما بعد التخلّص من تلك الصورة، وسيظهر فى حواره مع الموسيقار عمار الشريعي، كيف يجلس بكل ثقة وهو يحكى عن رحلته الغنائية، وكيف انتصر على كل من حوله ليصبح واحدا من أهم من قدّموا الأغنية الشعبية فى تاريخها.
هكذا عاش هؤلاء حتى بعد مماتهم نجوما زاهرة متألقة.. وأصبحوا أيقونات فنية تعبر عن مجتمع اختلط فيه الفنان بالمثقف وبالقراءة والاطلاع والتكوين النفسى والمعرفى.. فتحول الى مؤسسة وليس فنانا فقط يعرف قيمة الكلمة وقدر التصرف، القضية مهمة والفنان مثل أى مبدع اذا لم يحافظ على نفسه وعلى فنه وموهبته وحمايتها بالثقافة والمثقفين فسوف ينتهى سريعا ويذهب أدراج تصريحات غبية وعبثية!