التصدي لحروب تشويه الإسلام.. هكذا تواجه «خريجي الأزهر» أفكار التطرف
السبت، 23 مارس 2019 09:00 ص
يعمل علماء الدين فى شتى بقاع الأرض بدأب على رفع تلك تهمة لصق الأفكار المتطرفة بالدين الحنيف، وفى هذا الإطار حاولت المنظمة العالمية لخريجى الأزهر أن تلعب دورها، خاصة وهى التى تمتلك مركزا متخصصا لتفنيد الفكر المتطرف، فعملت على إصدار سلسلة كتيبات بعنوان «سلسلة تفنيد الفكر المتطرف» مخصصة للرد على حجج الجماعات الإرهابية الواهية، الحجة بالحجة والدليل بالدليل والبرهان بالبرهان.
السلسلة التى تصدى لتقديمها الشيخ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصى، عضو هيئة كبار العلماء، وكتب فيها أئمة الجامع الأزهر وعلماء جامعته الكبيرة، أصدرت حتى اليوم 11 كتيباً، كل كتيب منها يختص بمعالجة قضية فقهية محددة من بينها مفهوم المواطنة الذى ألفه الشيخ الدكتور عبد الفتاح العوارى عميد كلية أصول الدين، وآخر بعنوان موقف الإسلام من استخدام الدروع البشرية، وثالث يحدد موقف الإسلام من العمليات الانتحارية، ورابع يضرب أمثالا من حالات الغلو فى العهد النبوى، وكيف تمت معالجتها، وخامس يشرح مفهوم الحاكمية فى الإسلام، وسادس عن الجهاد فى الإسلام وضوابطه، وسابع لقضية الولاء والبراء ومفهومها ونشأتها، وثامن لمفهوم الخلافة، وتاسع لمفهوم الجاهلية، وهكذا ليصبح بين يدى القارئ سلسلة كاملة متخصصة للرد على تلك المزاعم التى ألصقتها جماعة العنف الدينى بالإسلام.
تتواصل حلقات مشروع تفنيد الفكر المتطرف عبر إصدارات علمية معنية بتفكيك تلك الأفكار والرد على شبهات الجماعات الإرهابية، وهو المشروع الذى أعدته المنظمة العالمية لخريجى الأزهر الشريف، تحت إشراف الدكتور محمد عبدالفضيل القوصى، عضو هيئة كبار العلماء، وأسامة ياسين، رئيس مجلس إدارة المشروع، ونائب رئيس المنظمة العالمية لخريجى الأزهر.
يهدف المشروع إلى إنتاج تأصيل علمى دقيق رداً على الأفكار الدينية المغلوطة التى يوظفها أصحاب الفكر المتطرف فى استقطاب الشباب واستدرار تعاطفهم مع جرائمهم الشنيعة فى حق الدين والإنسانية، وتتناول هذه الحلقة كتاب «الرد على كتاب السؤالات النيجيرية لأنس النشوان»، الذى أعده الدكتور حمد الله حافظ الصفتى، أحد علماء الأزهر الشريف، وإليكم نص الكتيب:
دار الإسلام ودار الكفر
السؤال الأول: هل يَكفُر المسلم بمجرد عيشه فى ديار الكفر؟
قال النشوان فى جوابه: «إن مجرد المقام فى دار الكفر ليس كفرًا بذاته، بل لا يكون إلا إذا اقترن به مُوجِب الكفر من موافقة عليه أو موالاة لأهله، وإنّ ترك الهجرة عند تعيُّنها مع القدرة عليها معصية وفسق، ولا ينافى أصل الإيمان، بل ينافى كماله الواجب».
الكلام فى ذاته حق، لولا أنه وجماعته يطلقون مصطلح «دار الإسلام» ومصطلح «دار الكفر»، ويريدون بهما مدلولا مُعينا يتفق مع ميولهم وأهوائهم، وإن خالفت ميولهم ما قرّره جميع الأئمة والفقهاء، وهو أن دار الإسلام هى التى يكون المجتمع فيها مجتمعا إسلاميا تُطبَّق فيه جميع الأحكام الشرعية، من حدود ومعاملات وغيرها، فإذا لم تُطبق تلك الأحكام فهى «دار كفر وحرب» تنبغى الهجرة منها فى نظرهم عند القدرة على ذلك!
ونتيجة لهذا الفهم العجيب، رأينا كثيرا من الشباب المنتمين لتلك الجماعات يرحلون عن بلادهم المسلمة، لأنها صارت فى نظرهم «دار كفر وحرب»! ومن بقى منهم فى بلاده رأيناه ينفصل عن مجتمعه انفصالا تاما، حتى قاطع شعائر الإسلام، من صلاة الجمعة وصلاة الجماعة والعيدين وغيرها، يقينا منه بأن بلاده المسلمة صارت تعيش فى مناخ كفرى لا يصلح لإقامة شعائر الدين!
والحق أن «دار الإسلام» فيما قرّره أئمة المذاهب السُّنِّية الأربعة وفقهاؤها، هى البلد الذى يمتلك فيه المسلمون سيادة أنفسهم، بحيث يقدرون على إظهار إسلامهم، والامتناع من أعدائهم، سواء كان سكان هذا البلد مُسلمين أو غير مسلمين، وسواء طُبقت أحكام الشريعة الإسلامية أم لم تُطبق، فإن ذلك لا ينفى كونها دار إسلام.
ومن أحكام دار الإسلام التى قرّرها الفقهاء والأئمة، أنها لا تتحول إلى «دار كفر أو حرب»، مهما كان ما تعرضت له من ضعف أو عدوان أو تسلُّط أو استعمار، بل تظل دار إسلام أبدا، واستثنى بعض فقهاء الحنفية حالة واحدة تتحول فيها «دار الإسلام» إلى «دار كفر»، وهى أن تجتمع فيها شروط ثلاثة: إجراء أحكام الكفر ونفاذها فيها، وأن تكون متاخمة لدار كفر وحرب، وألا يبقى فيها مسلم ولا ذمّى آمنًا بالأمان الإسلامى الأول على نفسه، وهى حالة لا تتحقق فى أى بلد مسلم على ظهر البسيطة. فأين ما قرّره أئمة الدين وفقهاء المسلمين ممّا يُقرّره هؤلاء المُخرّبون بدعوة شباب المسلمين لمفارقة ديارهم، واعتقاد كونها دار حرب وكفر؟!
لقد كان من تطبيقات ذلك المنهج المُنحرف الأعوج أن دعا شيوخ هؤلاء إلى ترك بلادنا المُحتلّة لُقمة سائغة فى يد الغاصب، زعمًا منهم أنها صارت دار كفر وحرب، لا يحل للمسلم الإقامة فيها، بل تجب عليه الهجرة منها، كما أفتى بذلك الشيخ محمد ناصر الدين الألبانى، ولك أن تتخيل ما يجُرّه ذلك على بلاد الإسلام من نقمة، وما يعود به على أعدائها من منفعة، فسبحان قاسم العقول.
التؤلات النيجرية
عصمة الدم واستهداف الآمنين
السؤال الثانى: هناك مدينة تجارية كبرى، عبارة عن سوق وأماكن للطواغيت داخل السوق، فلو ضربهم المجاهدون لقالوا: ضربوا السوق، وربما يُصاب بعض التجار العوام بتلك الضربات، فما الحل وما السياسة؟
قال النشوان فى جوابه: «إن عادة الطواغيت جرت أن يُحصّنوا جنودهم بالتمركز داخل الأحياء السكنية، والأسواق، والمتنزهات المأهولة بالسكان؛ تحاشيًا لضربات المجاهدين».
وهو يقصد بالطواغيت حكام البلاد المسلمة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقصد بجنودهم رجال الجيش والشرطة الذين يحفظون أمن البلاد والعباد، ويقصد بالمجاهدين هو وأمثاله من المخربين الخارجين على الأمة، يضربون برَّها وفاجرها، ويقصد بضرباتهم تلك العمليات الإرهابية التى يُقتل فيها المسلمون والمعاهدون وأهل الذمة المسالمين دون ذنب أو جريرة!
والله إن هذا لكذب وافتراء، فليست تلك عادة الطواغيت، بل هى عادة أهل الإسلام من الصدر الأول إلى يوم الناس هذا، أن يوجد رجال الأمن والشرطة بين الناس، عند بيوتهم وأسواقهم، تحقيقا للأمن، ونُصرة للضعيف، وردعًا للمتعدى، وليس تحاشيا لضربات المجرمين الذين يسميهم «النشوان» بالمجاهدين.
وبيّن المؤلفون فى الحكومة النبوية أن أوامر النبى عليه السلام تحولت عند المسلمين إلى برامج عملية، فصار عندهم الشرطة، والحسبة، والجيش، واعتاد المسلمون فى كل عصر ومصر، منذ الصدر الأول، على وجود رجال الشرطة بينهم وفى أسواقهم، تحقيقا لواجبهم من حراسة الأمن، والسهر على مصالح المسلمين، وتحصيلا للأجر العظيم الذى وعد به رسول الله بقوله: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ الله، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِى سَبِيلِ الله» «رواه الترمذى وحسّنه».
ثم قال النشوان: «وتترُّس العدو هذا لا يخلو من حالتين: الأولى أن يتترّس الطاغوت بمن ثبت له الكفر الأصلى، كنساء وذرارى المشركين؛ فهذه الحالة يجوز رمى العدو واستهدافه وإن قُتل الترس، ويلحق بحكم هذه الحالة ما لو تترَّس الطاغوت بطوائف الردّة».
ولا ندرى من أين أتى الرجل بهذا التخريف والافتراء؟! فإن الشرع الشريف لا يقول بهذا أبدا، وإنما نصوص الشرع المُطهّر ناطقة بخلافه جملة وتفصيلا، فإن الدماء فى الإسلام معصومة ابتداء، لا فرق فى ذلك بين مسلم وغير مسلم، وحسبُنا أن نسمع قوله تعالى: ﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، فلم يأمر رسول الله المسلمين بقتل غير المسلمين، إلا أن يعتدوا عليهم، فحينئذ يدفعون عن أنفسهم الاعتداء بما استطاعوا، أما بدء الناس بالقتال، بل قتلهم دون ذنب وجريرة، فليس من الإسلام فى شىء.
ثم قال النشوان فى بقية جوابه: «الثانية أن يتترّس الطاغوت بمسلمين قد تغلَّب على دارهم، فهم مقهورون تحت سلطانه، فهذه الحالة يُشترط لجواز استهداف العدو فيها بما يعمّ به التلف شروطًا، الأول أن يترتّب على ترك استهداف الطواغيت حفاظا على الترس، ولو بغالب الظن الاستيلاء على ديار المسلمين وتسلطه عليهم، والثانى أن يترتب عليه تعطيل فريضة الجهاد، والثالث أن يغلب على الظن تحقق المصلحة الراجحة برمى الكفار، وإن أدى ذلك إلى قتل الترس، والرابع أن يقصد الرامى قتل العدو لا قتل المسلمين».
وبغض النظر عن مفهوم الإسلام فى رأس «النشوان» وجماعته، فإن ما ذكره لا يمتّ لأحكام الشرع المُطهّر بصلة من قريب أو بعيد، إن ما يقوله هذا النشوان وأمثاله لتبرير أعمالهم المجرمة فى حق ذوى الدماء المعصومة بعصمة الشرع هو عين التضليل والتلبيس، إذ إن مسألة «التترُّس»، أو ما يُسمّى «الدروع البشرية»، لا علاقة لها بما يقوم به هؤلاء المجرمون، إذ صورة التترُّس المذكورة فى كتب الفقهاء فى وادٍ والواقع الذى يمارسه هؤلاء المجرمون فى واد آخر.
التكفير بالجنسية وجواز السفر
السؤال الثالث: مسألة تكفير من يحمل الأوراق الثبوتية، مثل الجنسية والجواز، إلا مُكرهًا كالمجاهدين الذين يريدون الخروج للجهاد «ومناط التكفير فيها أنها رضا بالبلد الذى يحكم بالكفر، وبحمل أوراق بها شعارات الدول الطاغوتية».
قرر «النشوان» فى جوابه عن السؤال أن المناط المذكور فى كفر حامل الأوراق الثبوتية تكفير باللازم، وهو غير منضبط؛ ولكن المناط المؤثّر هو فيما تمليه الدولة المانحة لهذه الأوراق على طالبيها، فإن اشترطت عليهم ما يُوجب الكفر، كالالتزام بالولاء والنصرة والنزول تحت حكمها، كان ذلك كفرًا.
واستند إلى فتوى من سماه «على الخضير» التى قرر فيها «كفر من حصل على جنسية، وجواز سفر من دولة غير إسلامية محبّة لهم ولدينهم، أو حصل عليها لأجل الدنيا، أما إن حصل عليها للضرورة، وهو مُبغضٍ لهم فى قلبه، فقد أجازه بعض أهل العلم، وهو مرجوح، فإن كان مُكرهًا فهذا يجوز، وهذا إذا لم يصحب ذلك قسم بالولاء للدولة المُجنِّسة، أما مع القسم مختارًا فهذا كفر أكبر».
والواضح من صيغة السؤال أن هؤلاء يُكفّرون حامل الأوراق الثبوتية وجواز السفر مطلقا، سواء كان من دولة مسلمة أو غير مسلمة، لتكفيرهم للسواد الأعظم من المسلمين، حكومات وشعوبا، كما هو منهجهم، ولكننا سنحمل الأمر هنا على الكلام فى التجنّس بجنسية الدول غير المسلمة.
بعيدا عن كل هذا الهراء الذى قاله فى المسألة، فإن التجنّس بجنسية دولة غير مسلمة «وهى من المسائل المستحدثة فى هذا العصر ولم تكن موجودة قبل ذلك»، اختلف فيها كبار أهل العلم بين الجواز والمنع، وهو ما يعنى أنها مسألة فقهية تتردّد بين الحظر والإباحة، فما بال هذا المأفون يرفعها لتكون مسألة كفر وإيمان؟!
لقد قرر كثير من الفقهاء وأهل العلم المعتبرين، أن التجنس بجنسيات البلاد غير المسلمة يختلف حكمه حسب الظروف والأحوال وأغراض التجنس، فإن اضطر إليه مسلم ولم يجد لنفسه مأمنًا إلا فى هذه البلاد، يجوز له التجنس دون أية كراهة، بشرط أن يعزم على نفسه المحافظة على دينه فى حياته العملية، وقد هاجر الصحابة، رضى الله عنهم، إلى الحبشة وأقاموا فيها، حتى أن بعضهم ظلوا مُقيمين فيها بعدما هاجر الرسول إلى المدينة، وكذلك إن لم تتيسّر له فى بلده وسائل المعاش الضرورية التى لا بد له منها، ولم يجدها إلا فى هذه البلاد، يجوز له ذلك أيضًا بالشرط المذكور، فإنّ كسب المعاش فريضة بعد الفريضة، ولم يقيّده الشرع بمكان دون مكان، فقال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُوْرِ﴾ «الملك: 15».
كذلك فإنه لو تجنس مسلم بتلك الجنسية لدعوة أهلها إلى الإسلام، أو لتبليغ الأحكام الشرعية إلى المسلمين المقيمين فيها، فإنه يثاب على ذلك، فضلا عن كونه جائزا، وأما إذا تيسّر له وسائل المعاش فى بلده المسلم، على مستوى أهل البلد، لكنه هاجر إلى تلك البلاد للاستزادة منها، والحصول على محض الترفّه والتنعّم فإن ذلك لا يخلو من كراهة، لما فيه من عرض النفس على المنكرات الشائعة هناك، وتحمّل خطر الانهيار الخلقى والدينى من غير ضرورة داعية لذلك، وعليه يُحمل ما ورد فى الحديث من النهى عن مُساكنة المشركين بدون حاجة مُلحّة «كما فى سنن أبى داود والترمذى»: وعليه قال الفقهاء: إن سُكنى دار الحرب وتكثير سوادهم لأجل المال ممّا يُسقط العدالة، أما إذا كان التجنُّس بالجنسيات الأجنبية اعتزازاً بها وافتخاراً، أو لتفضيلها على الجنسيات المسلمة، أو للتشبه بأهلها فى ما لا يُرضى الله من الأعمال، فإن ذلك حرام مطلقاً. فأين الكفر والإيمان مما نحن فيه؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم!
استهدف المدارس والدارسين
السؤال الرابع: ما حكم استهداف المدارس العالمية الكفرية التى تركها المُحتل فصارت حكومية، لتكفير من يدرس فيها، حيث إنه فى كل صباح فيها نشيد العلم بألفاظه الكفرية، ويردده الطلبة، وهو بيعة للطاغوت، ويقولون بعض المدارس يكون فيها احترام الصليب، وقراءة كلمات من الإنجيل، إلزامًا عند معاقبة الطالب، وكذلك الكليات التى يُدرَّس بها علم الفلسفة الكفرية، والمواد التى تخالف كلام الله كفراً، مثلاً الأرض تدور والشمس واقفة، وكروية الأرض وغيرها من «المعارضات للقرآن»؟
قال «النشوان» فى الجواب: «بالنسبة للمدارس الحكومية فإن كانت فى دولة كافرة حكومة وشعبا، كدول أوروبا ونحوها من الدول الصليبية فى أفريقيا، فلا يخلو الطلاب فيها من حالتين: إن كانوا أطفالا أو فتيات ونساء فلا يجوز استهدافها ابتداء، وإنما يجوز تبعًا إن كانت فى منطقة مجاورة لأهداف عسكرية، وإن كانوا كبارًا بالغين، فإن كانوا على الكفر الأصلى فالأصل جواز استهدافهم وقتلهم، ولكن يُراعى فى مسألة قتالهم باب المصالح والمفاسد التى يقدرها أهل الشأن، وإن كانوا من أبناء المسلمين الذين طرأ عليهم الكفر بعد لحاقهم بهذه المدارس؛ فهؤلاء اختلف العلماء فى صحة ردّتهم، والشاهد أنه ليس من المصلحة استهداف مثل هذه المدارس فى هذه المرحلة إلا إذا تترّس العدو بها، ولم نتمكن من الوصول إليه إلا باستهدافها».
ولا نملك إلا أن نقول رحمة الله على العلم والدين، إذ يُكفّرون طلاب المدارس الحكومية فى بلاد الإسلام، لأنهم يؤدون التحية الوطنية لبلادهم ويُقدّرون علَمها الذى هو رمز وشعار لها، ألم يتخذ رسول الله الرايات والألوية والأعلام؟! وعقد المُحَدِّثون أبوابًا فى كتبهم لذلك، مثل «سنن أبى داود»، باب الرايات والألوية، و«سنن الترمذى» باب ما جاء فى الألوية، و«سنن البيهقى» باب ما جاء فى عقد الألوية والرايات، ونحو ذلك.
وروى الإمامان الترمذى وابن ماجة عن سيدنا عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، أنه قال: «كانت راية النبى ﷺ سوداء ولواؤه أبيض»، وروى الإمام أبو داود عن سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم، قال: «رأيت راية النبى صفراء»، وروى الترمذى عن جابر، رضى الله عنه، أن «النبى دخل مكة ولواؤه أبيض»، وقد جرت العادة على أن يعمد العدو إلى ضرب حامل الراية وإسقاطه قبل غيره، ليثبط من عزيمة الجيش، فمتى كان العَلَم مرفوعًا كان ذلك دالًّا على العزة والقوة والصمود، ومتى نُكِّس وسقط كان ذلك دالًّا على الهزيمة والذل والانكسار.
ثم إن هذه الممارسات والأفعال هى ممّا ارتبط عند الناس بحب الأوطان، وتواضعوا على دلالتها تلك فصارت بذلك وسيلة عامة للتعبير عن حب الأوطان وإظهار الانتماء وتأكيد الولاء، وقد تقرّر فى قواعد الشريعة أن الوسائل لها أحكام المقاصد، فإذا كان حب الوطن مِن المطلوبات الشرعية كما هو مُقرَّر فى أدلة الشريعة، فإن وسيلتَه الجائزةَ فى أصلها تكون كذلك مشروعة مطلوبة، ويتأكد ذلك إذا كان عدم القيام أمارة عند الناس على عدم الاحترام، ثم انظر إلى هذا الذى يُجوّز استهداف النساء والأطفال الذين لا يقاتلون، ألم يسمع نهى الرسول عن قتل النساء والشيوخ والأطفال؟! ألا يلتحق الدارسون فى المدارس بالرهبان وأهل الصوامع الذين قال فيهم الرسول «دعوهم وما هم فيه»؟!
إن آية جليلة فى كتاب الله تعالى لتُبيِّن بهتان هؤلاء وانسلاخهم من التقيُّد بأحكام الشرع الشريف، وهى قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ «التوبة: 6», فهؤلاء مشركون ليسوا كتابيين وليسوا ممن فى حكمهم، ثم إنهم حربيّون، ومع ذلك فإن بيان الله يأمر المسلمين إذا أقبل واحد من هؤلاء الحربيين المشركين إليهم مستجيرا رافعا لواء السلم، أن يُجيروه ويحفظوا حياته وكرامته بالعناية التامة، وأن يُجنّبوه السوء وأسبابه، دون أن يغضّ من هذا الواجب المُترتّب على المسلمين فسقه أو مُجونه أو تعامله مع مقتضى عقيدته الباطلة، حتى إذا أراد أن يعود إلى قومه، وأن يلتحق بمعسكر حرابته وبغيه، مُشركا كما دخل، وجب على المسلمين أن يكفّوا عن أذاه، بل عليهم أن يتحملوا مسؤولية حراسة حياته وطمأنينته إلى أن يبلغ مأمنه، أى إلى أن يندمج عائدا إلى معسكره الذى أقبل إلى المسلمين منه.
هكذا يقول صريح بيان الله، عز وجل، إنه يأمر بنقيض ما يُقدم عليه هؤلاء المجرمون، بيان الله يأمر المؤمنين بالترفّع عن الاستجابة لدواعى الثأر ومشاعر الضغينة والحقد، والانقياد بدلاً عن ذلك لمشاعر الرحمة، وهؤلاء يُصرّون إصرارهم على الإعراض عن أمر الله وبيانه، والاستجابة لدواعى الثأر والتشبع بمشاعر الحقد والضغينة، وعلى أن يستنطقوا الإسلام بما هو برىء منه من الفظاظة فى القول، والغلظة فى التعامل، ونشر الرعب فى نفوس البُرآء الآمنين، ثم إن الآية تحمل دلالة قاطعة على أن الجهاد القتالى لم يُشرّع لحمل الكافرين على الإسلام، وإنما شُرِّع لدرء خطر الحرابة عن المسلمين، فإذا ابتعد هذا الخطر عن المسلمين ابتعدت معه مشروعية الجهاد القتالى.
لو كان المراد من الجهاد حمل الكافرين على الدخول فى الإسلام إذن لم يجز ترك هذا المُشرك يعود إلى فئته بعد أن دخل ديار الإسلام كافرا، فضلا عن أن يتحمل المسلمون مسؤولية إبلاغه مأمنه، إن السبيل الوحيد لتخلّص هؤلاء من هذا الحرج الفاضح ألّا يمتطوا الإسلام إلى أهدافهم الشخصية، وأن يُصرّحوا كزملائهم الآخرين بطموحاتهم السياسية، وينافسوهم على طريق السعى إلى الحكم بقوة متكافئة ومطايا متشابهة. فإن هم أبوا إلا أن يمتازوا عن زملائهم بحمل ورقة الإسلام ودعوى الدفاع عن دين الله فلا بد من أن ينضبطوا إذن بهذه الأحكام التى ذكرناها، أى لا بد أن ينضبطوا بأحكام الإسلام الذى يقولون إنهم دعاته وحماته.
لن تجد أصرح من هذا الحديث الصحيح الذى يضبطهم فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بنقيض ما يقولون وخلاف ما يوهمون: «اللهم إنى أبرأ إليك مما فعل هؤلاء»، اللهم ارفع تلك الغُمّة عن الإسلام وأهله، واعصم شباب المسلمين من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.