بعيدا عن عالم البشر | في حياة اليراع.. متى يعلم الذكر أنه ضيف مرحب به؟
الثلاثاء، 12 مارس 2019 12:00 م
عندما يزيح الغسق الشفق.. فيضاء الظلام لتبدأ حياة كائنات أخرى على أضواء راقصة ينشرها "اليراع"، تلك المخلوقات التي لديها قدرة غريبة لانتاج الضوء، إنها تتلألأ حيويا ولم يكن اليراع وحده كذلك، إذ يجد العلماء أشكال حياة لكائنات متوهجة أخرى أكثر غرابة وروعة حول العالم، لطالما سحرتهم اكتشفوا المزيد عنها وأثاروا العديد والعديد من الأسئلة عن .. ما سبب ضوئها؟ وكيف يتكون؟
في السنوات الأخيرة، بدأ العلماء في العثور على إجابات لتلك الأسئلة، فأخذونا لعالم يختلف عنّا تمامًا، وبمساعدة كاميراتهم المُصممة خصيصا لتوثيق واظهار الظاهرة الخارقة - أي إضاءة الكائنات الحية- كما لو لم تُرَ من قبل.
المكان: بنسلفانيا - الولايات المتحدة الأمريكية.. حيثُ استخدم العلماء نوع من العصا للبحث عن اليراع -نوع من الحشرات المضيئة- وهي العصا الفعلية التي استخدمها العلماء الذين قاموا لأول مرة بفك شفرة علامات النداء المتنوعة لليراع وكانت خمسة عشر نوعا على الأقل، كل نوع إشارة تحمل مدلولها، فالتلألؤ الحيوي للكائنات المتوهجة يحمل أسرار كثيرة، لكن العلماء يعلموا أن اليراع يستخدمه لاجتذاب الجنس الآخر.
واستخدم الأحيائي "جيم ليود" العصا ليحاكي ذكر اليراع، ويفك شفرة الإشارات المتنوعة للضوء التي تصدرها أنثى اليراع فيترجمها الذكر، وبالفعل نجح في الكشف عنها عندما وجد ارتباط بين مسار طيران اليراع واضائته، فمنهم يضيئون اضواءهم عندما يرتفعون لأعلى، ومنهم أثناء التحرك بثبات عرضيا، وبجانب مسار الطيران، يومضون باشارات خاصة كشفرة "موريس". كل هذا لجذب الجنس الآخر لهم.
وفي أحد الجولات التي قام بها السير ديفيد اتينبورو - وهو صانع الوثائقيات البريطاني الشهير الرجل الذي وطأت قدميه أماكن لم يزورها بشري ليوثق حياة الطبيعة على الأرض، متجولا بين أماكن اليراع النائية ببنسلفانيا.. توقف "اتينبورو" لحظات وأشار إلى وجود أنثى بين تلك الأوراق المحيطة به، تصدر ومضة واحدة، وينتظر الذكر منها أربع ثواني بالتحديد، ثم يرد عليها بومضة، ثم تصدر على الفور ومضة أخرى، وقتها يعلم الذكر أنه سيكون زائرا مرحبا به.
يبدو أن الذكر قد قام بإرسال كافة الإشارات الصحيحة، فتحكم أنثى اليراع على جودته بدقة توقيته وضوءه، فلنكتشف الآن أن لغة الضوء لها لهجات ومدلول في عوالم أخرى موازية لعالمنا.
المكان: من فلوريدا إلى جنوب كندا، وفي أحد مواسم الصيف تتلألأ الحدائق والحقول والغابات برسائل التزاوج، حتى أن التصوير الزمني للظاهرة يكشف الحد المُذهل لتلك العملية، فجأة تظهر الغابة في الغسق مُغطّاه بالومضات، لا شيء يُرى هنا عدا الومضات، تقوم اليراع بمزامنة العروض، يومض الأفراد معا ويثير كل فرد جاره، وتنبض موجات الضوء سريعة فتبدو اوضح للناظر عن بُعد.. ماذا يحدث هناك؟
بين الموجات، يمكن أن تستجيب الأنثى المعجبة بومضتين منها، ويقترب الذكر منها لكنها لا تختار إلا واحدا، تشتد تلك العروض في بضعة ليالي في يونيو .. لكن سبب وميضهم معا في نفس التوقيت لا يزال لغزا.
الضوء الحي .. ما بين الخيال والحقيقة
أغلب الضوء الحي يظل لغز جميل، فعلى مدار التاريخ كان يًعتقد أن قصص التلألؤ الحيوي "خيال" محض، وكتب "جولز فيرد" روائي الخيال العلمي في سبعينات القرن ال19 ، في كتابه "عشرون ألف فرسخ تحت البحر"، إنه وفي تمام السابعة مساءً كانت تُبحر سفينتهم المغمورة في بحر من الحليب، وبدى المحيط حليبًا للوهلة الأولى، وبدت السماء داكنة مقارنة ببياض الماء، ربما بنى "جولز" قصته على أسطورة رواها له البحارة وقتها.
لكن في عام 1995، كتب ربان سفينة بريطانية رواية حقيقية في سجل سفينته، أنه في الساعة 18 وبليلة صافية بلا قمر على بُعد 150 ميل شرق الساحل الصومالي، لوحظ وهج أبيض في الأفق وبعد خمسة عشر دقيقة من الإبحار كانت السفينة مُحاطة ببحر من اللون اللبني باضاءة منتظمة .. بدى وكأن السفينة تًبحر فوق حقل من الجليد أو تنزلق على السحب. تسائل العلماء عن إمكانية تمكنهم من سجلات هذه السفن والبحث عن بياناتها على القمر الصناعي المغطي تلك المنطقة في ذات الوقت.
كانت لحظات مدهشة وكاشفة.. تمكنوا من توثيق الحد الكامل للبحر اللبني على مدار ثلاث ليالي متتالية، اثبتوا أنه في حالات نادرة تتوهّج المحيطات .. لكن ما الذي يسبب وهجًا هذه المرة بالغ الإضاءة بحيث يمكن رؤيته من الفضاء؟
الشاطيء يتلألأ نتيجة ظهور أسماك ابراميس المضيئة
عثر العلماء على الإجابة من خلال الكشف عن أحد الأسماك يسمى أبراميس البحر، فالسمكة نفسها ليس لها قُدرة على إصدار الضوء، ولكن عند تكوّن البكتيريا داخله وخاصةً تحت منطقة العين، تتوهج تحت الماء لتشبه كشافات الإضاءة، هذه البكتريا موجودة في كافة مياه البحار تتغذى على السمك المتحلل وتتوهج بأعداد ضخمة يمكن لقمر صناعي رصدها عن بُعد. تستفيد هذه الأسماك من البكتيريا المضيئة تحت البحار والمحيطات بطريقتين، إذ تستخدم هذا الوهج لأغراض أولها إضاءة قاع البحر، وربما تساعد السمكة في مغازلة جنسها الآخر.
هناك الكثير من الأسرار حول عالم الإضاءة الحية، وقدرة بعض الكائنات لتلألؤ في الظلام من خلال بعض التفاعلات الكيميائية التي تُنتج ومضات على سطح البكتيريا الدقيقة، مكونة وهج حقيقي وليس خيال كما كان يُعتقد في السابق.