عبقرية القرآن الكريم.. ومكر المصريين
الخميس، 17 يناير 2019 02:10 م
فى القرآن الكريم آياتٌ تشعرُ أن السماءَ أنزلتها إلى الأرض فى التوِّ واللحظة، وليس منذ أكثر من 14 قرناً، وذلك لملامستها الواقع ومواكبتها أدق تفاصيل الحياة. ومن بين تلك الآيات قوله تعالى: "لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا". بالفعل.. هناك فقراءُ إلى حد العدم، لا سيما فى أدغال الريف وأعماق الصعيد، لا يُشعرون أحداً بفقرهم ولا يُلِّحُون فى طلب الصدقة والمعونة خجلاً وتعفُفاً، ولا يطاردونك فى الشوارع وإشارات المرور ولا يزعمون إصابتهم بالأمراض والعاهات، وأولئك من أمر القرآن الكريم بالسؤال عنهم وإعانتهم ومساعدتهم والإحسان الدائم إليهم. فى المقابل.. هناك فريقٌ آخر من المصريين يبتكر كل يوم جديداً فى فنون التسول لإقناعك بأنه فقيرٌ مٌعدَمٌ تقطعت به الأسباب وضاقت عليه الأرض بما رحبُتْ، وهؤلاء يكثرون فى المناسبات الدينية والكوارث الطبيعية أكثر من أى وقت آخر. خلال الأيام الماضية.. تعرضتْ محافظاتُ مصر لحالة من الطقس السيئ والصقيع، ما تسبب فى وفاة بعض المُشردين فى الشوارع، وامتلأتْ صفحات مواقع التواصل الاجتماعى بحالات إنسانية صعبة تناشد ذوى القلوب الرحيمة - فى ظل غياب حكومى مُعتاد- التدخل الفورى و السريع لإنقاذهم. الرئيسُ مشكوراً –كعادته- أخذ زمام المبادرة وتجاوب مع إحدى هذه الاستغاثات ووجَّه بإنقاذ سيدة مُسنة تفترش الشارع فى قلب القاهرة وبالقرب من عدد كبير من الوزارات. من المؤكد.. أن مثل هذه الأمور الإنسانية البسيطة لا تتطلبُ تدخلاً رئاسياً، فالرئيس عنده ما يشغله من أعباء ثقيلة، ولكن لأنَّ السيدة وزيرة التضامن الاجتماعى لا تزال تعيش نشوة الفرح والسعادة بشراء سيارة فارهة من طراز BMW، فإن قلبها الرؤوم لن يرى المشردين الذين يملأون الشوارع والميادين ولا الفقراء والمعدمين ولا ما يحدث فى دور الأيتام والمُسنين. الحقيقة، التى لا تقبل شكاً ولا تدليساً ولا يجب أن يزايد عليها المزايدون.. أن تلكَ الوزيرة مُوظفة ملتزمة بامتياز، أى نعم.. لا تتخذ مبادرة من تلقاء نفسها، فقط.. تنتظر الأوامر والقرارات والتوجيهات أولاً ثم تُنفذ، وبعد ذلك تنسبُ كلَّ شئ إلى نفسها ووزارتها ومعاونيها المُرابطين فى مكاتبهم ووظائفهم المُحصَّنة. يبدو أن معالى الوزيرة كانت تطمح أن تكون سكرتيرة تنفيذية فى مؤسسة دولية كبرى، ولكن حظها السعيد دفعها إلى منصب وزارى ذى أبعاد إنسانية رفيعة، وحظ المصريين السيئ أن وزارتها تتصل بشكل مباشر بالفقراء والمحتاجين والمعدومين.
وبعيداً عن الوزيرة وسيارتها المليونية وبرجها العاجى الذى تعيش فيه ونظارتها التى تحجب عن عينيها رؤية المشردين المتاخمين لوزارتها أو البعيدين عن القاهرة.. أعود إلى ما بدأتُ به المقال عن عبقرية القرآن الكريم فى وصف حال من احتلهم الفقرحياتهم، فلم يجأروا بالشكوى ولم يستعمروا الشوارع ولم يقطعْوا على الناس طريقهم.. أما مكر المصريين فيتمثل فى إبداع نفرٍ محدودٍ فى ادعاء الفقر، سواء من خلال ارتداء ملابس رثَّة أو إيهام المارَّة بأنه يعانى عاهة مُستديمة، وهو ما تكرَّرَ خلال الأيام الماضية، تزامناً مع موجة الصقيع، حيث رفض بعض "ممن يزعمون أنهم مُشرَّدون" التجاوب مع دعواتٍ مخلصة وجادَّة وعملية من أفراد أو جمعيات أهلية بنقلهم فوراً إلى دور رعاية وتدبير احتياجاتهم المادية والمعنوية وإبعادهم عن هذه الأجواء القاتلة. أحدُهم تبين أنه موظف على المعاش ويمتلك دخلاً منتظماً، فضلاً عن حساب بالبريد، وآخر تبين أنه يمتلك رصيداً بنكياً كبيراً فضلاً عن عدد من البنايات الشاهقة التى تدرُّ عليه دخلاً شهرياً كبيراً. وثالث كاد يعتدى بالضرب على من عرض عليه " وهو مخرج سينمائى معروف" مساعدته ونقله إلى دار لرعايته وتأمينه من البرد القارس، هذه الظاهرة البغيضة تتطلب تغليظاً فى العقوبة ضد من يتخذ من التسول وظيفة ومهنة رغم عدم احتياجه، لتجفيف منابعها، حيث تبدو القاهرة فى بعض الأيام وكأنها مدينة للمتسولين، فيما يتحصَّنُ المحتاجون الحقيقيون فى بيوتهم يعانون فقراً مدقعاً لا يرحم، ولكن نفوسهم الأبيَّة ترفض التشكى. أما أنت عزيزى القارئ.. فلا تتوقف عن الإنفاق فى سبيل الله ولا تحجب إحسانك، ولكن حاول أن تجعل صدقاتك وزكاتك من نصيب من يستحقهما. لا تمنح هؤلاء الممثلين الماكرين الفرصة ليخدعوك ويسلبوا مالك ويحرموا الفقراء الحقيقيين الذين لا يسألون الناس إلحافاً كما وصفتهم الآية العبقرية.