«السترات الصفراء» تهدد باريس.. الاعتقالات والمواجهات تؤرق مضاجع «ماكرون»
الأحد، 13 يناير 2019 03:00 م
على الرغم من محاولات الحكومة الفرنسية الترويج لفكرة نجاحها فى احتواء الغضب المتأجج فى الشوارع، بقيادة حركة السترات الصفراء، عبر التلويح بانخفاض أعداد المشاركين فى الأسابيع الماضية، إلا أن الأحداث شهدت، أمس السبت، تطورات كبيرة، ليس فقط بسبب الزيادة الكبيرة فى أعداد المشاركين مقارنة بالأسابيع الماضية، وكذلك عودة مسلسل الاشتباكات بين المتظاهرين فى شوارع باريس والشرطة الفرنسية، إنما أيضا بسبب الأبعاد الجديدة التى شهدتها المظاهرات، بعد محاولات اقتحام باحة مقر رئاسة الوزراء، وهو ما يعد بمثابة منحى جديد على طريق الأزمة التى تشهدها باريس منذ عدة أسابيع.
المظاهرات التى تشهدها باريس جاءت على خلفية قرارات، تراجعت عنها الحكومة الفرنسية، وعلى رأسها فرض الضرائب على أسعار المحروقات، إلا أن التراجع الحكومى لم يساهم بصورة كبيرة فى تخفيف حدة الاحتجاجات، فى ظل ارتفاع سقف المطالب، والتى وصلت إلى حد المطالبة باستقالة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وحل البرلمان، بالإضافة إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبى، وهو ما يثير التساؤلات حول ما إذا كانت الإجراءات التى اتخذها الرئيس الفرنسى وحكومته كافية لاحتواء حالة الغضب فى الشوارع أم أن هناك أمور أخرى يحتاج إلى تقديمها فى المرحلة المقبلة.
فقد انطلقت في العاصمة الفرنسية باريس ومدن أخرى، (السبت)، موجة جديدة من مظاهرات أنصار حركة السترات الصفر، وسط مخاوف، من تجدد أعمال العنف التي تخللت المظاهرات السابقة. ونشرت الحكومة الفرنسية 80 ألف من عناصر الأمن وهدد وزير الداخلية كريستوف كاستانير برد قوي على العنف.
ورغم ذلك، شهدت شوارع باريس كرّا وفرّا بين المتظاهرين وقوات الأمن، وقالت مصادر إن بعض المحتجين رشقوا رجال الشرطة الفرنسية بالحجارة. واعتقلت الشرطة الفرنسية بعض المتظاهرين قرب قوس النصر، في محاولة لمنع الاحتجاجات من الوصول إلى جادة الشانزليزيه.
وأطلقت مجموعات دعوات عبر الإنترنت طوال الأسبوع إلى احتجاجات حاشدة في لو بورجيه، لكن شرطة باريس قالت إنها لن تتخلى عن حذرها وتأهبها، لا سيما حول المباني الحكومية والشانزليزيه، الذي كان مسرحا لأعمال شغب متكررة في الاحتجاجات السابقة.
وتسعى حركة ما يعرف بـ«السترات الصفر» إلى إعطاء زخم جديد للاحتجاجات، التي تراجعت حدتها مع نهاية السنة الماضية. لكن نجاح الحركة في حشد نحو 50 ألف شخص في الشوارع السبت الماضي، أعطى الحركة نفسا جديدا، رغم التنازلات التي قدمها الرئيس إيمانويل ماكرون والتي نجحت نسبيا في التخفيف من حدة المظاهرات.
ويرى البعض أن احتجاجات السبت التاسع اختبار لحركة السترات الصفر، وقدرتها على تحريك الشارع، خاصة وأن هذه المظاهرات تأتي قبل أيام من انطلاق جلسات الحوار الشامل الذي دعا إليه ماكرون في محاولة للخروج من الأزمة.
ويبدو أن حالة الغضب الذى يجتاح الشوارع الفرنسية فى المرحلة الراهنة لا تقتصر فى جوهرها على حزمة القرارات التى اتخذها ماكرون، وإنما ترتبط إلى حد كبير بالتوجه الاستراتيجى للرئيس الفرنسى، والذى يقوم فى الأساس على دعم الأسواق المفتوحة وسياسات العولمة والمنافسة، بالإضافة إلى إيمانه الراسخ بالاتحاد الأوروبى، وهى السياسات التى ربما لفظتها الشعوب الأوروبية، وفى القلب منهم الفرنسيين، بسبب ما أدت إليه من زيادة كبيرة فى أعداد المهاجرين القادمين من دول أخرى، وبالتالى تضاؤل الفرص المتاحة لهم من أجل حياة أفضل.
وهنا تصبح خطوات التراجع التى اتخذها ماكرون ليست أكثر من مجرد "مسكنات" ليست كافية لإنهاء حالة انعدام الثقة الحالية، خاصة فى ظل إجراءات تبدو حاسمة اتخذتها دولا أخرى تجاه مثل هذه القضايا، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، والتى تمكنت من تحقيق نجاح اقتصادى كبير فى الآونة الأخيرة، فى ظل الموقف الذى يتبناه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب تجاه المهاجرين، وانتصاراته الاقتصادية المتلاحقة، والتى دفعت معدلات النمو إلى الصعود بصورة كبيرة إذا ما قورنت بحقبة سلفه باراك أوباما، بينما شهدت البطالة بين الأمريكيين انخفاضا كبيرا.
ولعل سلسلة التراجعات التى اتخذها الرئيس الفرنسى تمثل السبب الرئيسى وراء ارتفاع سقف المطالب، والتى امتدت من النطاق الاجتماعى المتمثل فى القرارات المتعلقة بالضرائب والمطالبة بارتفاع الأجور، إلى نطاق سياسى أكثر شمولا يصل إلى تغيير التوجه الاستراتيجى للحكومة الفرنسية، لتتراجع عن نهجها الداعم للعولمة والليبرالية، إلى مبادئ القومية واحترام الحدود ومبادئ السيادة الوطنية، وهى الأفكار نفسها التى يتبناها اليمين المتطرف.
وربما كان طموح الفرنسيين فى تغيير النهج الذى تبناه الرؤساء السابقين هو السبب الرئيسى وراء النجاح غير المتوقع الذى حققه ماكرون فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة، حيث لعبت الظروف التى أحاطت بالانتخابات دورا كبيرا فى ارتفاع أسهمه، بعد الفضائح التى لاحقت المرشح الأوفر حظا آنذاك فرنسوا فيون، والذى ترشح عن حزب الجمهوريين اليمينى، حول منحه وظائف لزوجته، بالإضافة إلى اتهامه باختلاس أموال عامه إبان وجوده كعضو فى مجلس الشيوخ الأمريكى، وبالتالى كان ماكرون هو الوجه الأكثر قبولا على الساحة السياسية الفرنسية باعتباره شابا وربما يحمل فكرا جديدا، وهو ما ينافى الحقيقة بحسب رؤية المتظاهرين فى المرحلة الراهنة.
ولعل المفارقة أن الموقف الفرنسى الراهن لا يبدو بعيدا عن تغيرات عالمية تتجه نحو تحول النظام العالمى إلى النزعة القومية، بقيادة الولايات المتحدة، فى ضوء سياسات ترامب، وبريطانيا، والتى اتجهت نحو الخروج من الاتحاد الأوروبى "بريكست"، وبالتالى فتبقى الحاجة الفرنسية ملحة للغاية لمواكبة التغيرات التى يشهدها العالم الجديد، وهو الأمر الذى مازال لم ينجح الرئيس الفرنسى فى تحقيقه حتى الآن.
الموقف الصعب الذى يواجهه ماكرون، ربما سبقه إليه رؤساء سابقين، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران، والذى بدا متمسكا بنزعته القومية إبان وصوله إلى الإليزيه فى عام 1981، فى الوقت الذى كان يتجه فيه العالم نحو نظام العولمة بقيادة الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان، وحليفته البريطانية مارجريت تاتشر، مما دفعه بعد ذلك، وتحديدا فى عام 1983، إلى تغيير الدفة لتدخل باريس فى عالم العولمة، لتواكب النظام العالمى الجديد، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا كان ماكرون يمكنه الاستفادة من دروس التاريخ أم أنه سيواصل نفس السياسات فى المرحلة المقبلة.