فن العيش
الإثنين، 07 يناير 2019 03:26 م
(من داخل الغرف المغلقة )
"الغرفة (1)"
سبعون عاماً من العيشِ في حياة الآخرين عوضاً عن التجولِ ليلاً في أزقةِ العقلِ المخيفة..
سبعون عاماً تبحث عن الرجل المفقود في الوجه المحبوسِ في البرواز المُدهَبة.. تبحث على جدرانِ المعابدِ القديمة ودور العبادة، وجدارياتِ الشوارعِ الملونةِ بالدمِ والجوع ..
وتمقتُ كل محاولاتِ الحبِ والرقصِ نزولاً على درجاتِ السُلمِ الأثريِ الذي ظنوهُ يوماً يصلحُ طريقاً للسماء..
كانت تؤمن بضرورةِ القسوة رغم إنتصار الزمن على الجسدِ المؤقت،ورغم إقتراب طفلها الذي تحمله علي كتفها من عتبةِ العمرِ الموصدة..
سبعون عاماً ومازالت تنظرُ صوبَ السماء تحاولُ السجودَ للصمت..
ولا يزال طفلها المتسائل باقٍ على العهدِ في قبو الماضي المنسي يسكنُ بلا إجابات..
يكبُر كل يوم مع أم صارت حجراً بقلب من حديد..
يكبُر وقد أصبح بعيداً بعيداً قدر تكرار الأيام ..
ومازالت "أمي" التي لم تعرف من الله سوى الصبر، ولم ترى جلال نوره إلا في لحظات الحُلك تسكنُ المسافة المختارة بين الأريكةِ والتلفاز..
"الغرفة (2)"
"النوافذ التي بيني وبين العالم تُبقي البرد بالخارج، تُبقي الخوف بالخارج
فلماذا إذن تبدو صورتي المنعكسة على زجاجها المُعتم وحيدة جدًا..
فالوحدة التي تحاصرني تجلب معها عَبق الرؤى المحملة بأصداء..
فقط كل ما أتذكره هو أصوات البنائين عندما كانوا يبنون الجدران ولا شيء آخر
على الإطلاق..
فبدون أدنى إكتراث، أو شفقة، أو خجل بنوا جدرانًا سميكة وشاهقة ، وفي هدوء وصمت تام راحوا يعزلونني عن العالم..وكيف لم ألحظ ذلك؟..
ومنذ ذلك الحين وأنا أحلم ببيت.. بيت لي وحدي بسقف وأربعة جدران وباب ..
باب أوصده في وجه العالم والآخرين.. فأنا لدي الكثير لأفعله بالخارج..
ولكن كم هو صعب المرور الآن من هذا الباب الضيق جدًا الذي يشبه شقًا في الحائط..
وها أنا الآن أجلس هنا لا أمل لي ،ولا أستطيع أن أفكر في شيء آخر، فقط تأتيني كل الأشياء التي نسيتها في الأحلام صارخةٌ طلبًا للنجدة..
فأنا في بعض الأحيان أستطيع أن أسمع أنين عظامي تحت وطأة كل الحيوات التي لم أعشها .. وكأن هذا المصير ينخر روحي..
وما الوحدة إلا ان تتلفت فلا تري أحداً من حولك ، وما الموت إلا أن تنظر في كل الوجوه من حولك فلا تري إلا وجهك "
كانت تلك كلمات أختي التي تركتها قبل إلقاء رأسها علي الطريق والهروب ..
ولا أتذكر إلا تلك الصورة عندما كانت شقيقتي تحاولُ الهروبَ من أقمشةِ أمها المُعَدةَ مُسبقاً ومساحيقَ أعياد الزياراتِ المقدسة، وأطباقَ السيراميك المتربة التي شرختها الأيام..
كانت تحاول دوماً نسيان كلُ الأشياءِ المُعَدة لإرضاء الفراغ الممتليء بنظراتِ العابرين..
وكعادتي .. كنت أقرأها وأجلس مهزومٌ مثل والدي، فقد آثرتُ دوماً راحة السقوطِ غير مبال بالحقيقة ، متلذذاً بالقُبح والكسل ..
"الغرفة (3)"
هو : في بداية الأمر كان يحركني أحمقان داخلي من بين كثيرين..
أحدهما كان لا يريد شيئاً أكثر من البقاء كما هو، والآخر كان يتصور أنه بعد قليل قد تصبح الحياة أقل بشاعة نوعاً ما مما هي عليه الآن..
ومضت بي الحياة، لم أكن فيها سوي رمزاً لإنتفاخ العِرْقِ في كتف الأجير بعينٍ تستجير..
كنت أسمع صدي إلتقاء رأسي بالحوائط هلكاً كل ليل عندما كنت أري عيونكم الجوعي دوماً تُغالِط..
ويأتي كل صباح كاشفاً عن وجهي المستباح..
أعرف أنني طوال حياتي لم أكن أكثر من بذور سوداء تتنقل بين الأسوار..
إستترت خلف الدهاء والحنكة والإستباحة وحاولت إتباع الحشد والجميع ..
ولم أملك إلا قتل عائلتي فرداً بعد الآخر بعد أن أنكرتُ عليهم مَيْلِهم للجحود..
ألقيتهم في عتمةِ البئرِ،وبقيت وحدي مواجهاً نفسي ولعنة الخلود..
ولا أعلم في سكونِ هذا البئرِ كم توقفَ الوقت؟
أنا :
وحيدٌ كالشيطان لا يدثره الموتُ .. ولا يلمسُ وجنتيه ضوءُ النهار في بئرٍ من نار..
تأكله ظلمةُ الليلِ الحزين.. وتمدُ النجوم المعلقةُ في صفحةِ الكونِ أناملها نحوه ولا تعانقه..
هكذا أصبح أبي بعد أن كان يظن أن الحكيم هو هذا الشخص الذي يجعل حياته رتيبة، فعندها يبدو له كل حدث تافه كأعجوبة..
وما السنوات الأخيرة من عمر المرء إلا أشبه بنهاية حفلة تنكرية،عندما تبدأ الأقنعة في التساقط ..
"الغرفة (4)"
طيلة هذه السنوات وأنا أخاف النظر لمرآة خاوية، أخشي ألا تعكس المرآة صورة وجهي ولا أرى أي شئ، فأنا أظن إنني كومبارس في قصة كل من أعرف، وربما أكون كومبارسًا في حياتي أنا أيضاً..
نعم .. كل فرد منتمٍ إلى الحشد يحمل بداخله خائنًا صغيرًا، يريد أن يأكل ويشرب ويمارس الجنس ويُترك لشأنه، وطالما يفعل هذا في هدوء فإن الحشد يسمح له بالإستمرار..
حتي يومًا ما، في مكان ما،عندما تأتي تلك اللحظة ..
لحظة يبدأ عندها أن يُحدث ضجيجًا بشأن تلك الأمور،ويدرك الجميع أن هذ الفرد بدأ ينصِت لإغراءات ذاته وروحه.. فيصبح مثار كراهية الحشد وخوفه..
وهنا يكون الحشد أشبه بمدينة محاصرة، وشأن أغلب حالات الحصار، هناك دائمًا عدو خارج الأسوار وعدو بالداخل..
وتلك اللحظة دون غيرها قد تكون أسعد لحظات حياته أو أكثرها مرارةً على الإطلاق، عندما يواجه المرء ذاته والآخرين..
وهي اللحظة التي أدركت عندها كم كنتُ أدنس ذائقتي بالملح والسكر، وأدنس روحي بالمتع والألم، ولم أذق قط الطعم الأول للأشياء..
وكم أن يدي لم تلمسا الأشياء قط من قبل لأنهما غليظتان وممتلئتان عن آخرهما بالكلمات..
تلك اللحظة التي علمت فيها بحقيقة الجميع وحقيقتي أنا أيضاً، وذقتُ فيها طعم العدم، وكان للعدم طعم لبن الأم الذي لا طعم له إلا في فم الرضيع ..
أدركت وقتها أنني مازلتُ أخافُ من الطفلِ المتسائل الذي كان يحمله كَتِف أمي عندما يزورُ أرقي، وفي صمتهِ تكرارٌ لنفسِ الأسئلة..
مازلت أخاف من غربتي عن الأرصفة والوجوه والمعابد..
أخاف الحدائقِ المعتمة كالليلِ في نهارِ الذاتِ المُحلِقة فوقَ الرؤوس..
أخاف القبوِ الذي أبصرتُ بين جدرانه ظلامَ الكونِ وأدركت فيه خوفي المبررَ من أحلامي القليلةِ المتكررة..
وأنني أخاف من وجهِ والدِي الذي مازلتُ حتى هذا اليوم أقتُله..
أقتله داخل سجناً في بلاد مغلقة، في بيوت مغلقة، في غرف مغلقة أتقن الجميع بها فن العيش..
وفقط كل ما أعلمه جيداً أنه في يوماً ما سيسود المدينة حزن عظيم وتظلم كل شوارعها، عدا شارع واحد في طرف المدينة يضج بالأنوار والألوان، والضحكات لا تنقطع من بيوته،عدا بيت واحد في نهاية الشارع، يلفه الوجوم ويخيم على حجراته صمت ثقيل، عدا حجرة واحدة في نهاية الممر، صاخبة لا ينقطع ضجيجها وشاغلوها لا يتوقفون عن الكلام والجدل، عدا أصغرهم، طفل منزوٍ في الركن يطل من نافذة موصدة على حائط به صدع يزداد اتساعًا..
ولن يكون هو الوحيد الناجي من الحادث.. ولكنه سيظل شهيد الراوية وشاهداً علي القصة..